قلق البرت اينشتاين مكتشف «النسبية العامة» التي غيّرت وجه العلوم الطبيعية ونقلت البشرية الى مرحلة اعلى من مراحل تطورها العلمي فليس قلقاً اجتماعياً رغم انه لم يعش جل حياته ينعم بالاستقرار، وليس قلقاً وجودياً وان كان قد مر في طفولته المتأخرة بتجربة دينية بالغة الحدة.. فالأمر المؤكد ان قلق اينشتاين هو قلق علمي مضمونه كما يقول الكاتب الانجليزي فريدريك جولدن انه العبقري الوحيد وسط عباقرة عصره الذي اكتشف عبر التفكير المتأمل ان الكون في حقيقته ليس على الصورة التي تتراءى لنا، كان اينشتاين صغيراً عندما اقدم على اجراء بحوثه التي انتهت ب«النسبية» لكن قلقه الكبير هو الذي دفعه لإعمال عقله في الكون الطبيعي وفي النظريات والقوانين والمفاهيم العلمية السائدة في بدايات القرن العشرين، والتي كانت تتصدى لتفسير هذا الكون وتصنع صورة عنه، لكن قلق اينشتاين دفعه الى الشك في هذه النظريات العلمية السائدة ليكتشف صورها وتناقضاتها وعجزها عن تكوين صورة حقيقية عن الكون الذي نعيش فيه، ومن ثم اراد اينشتاين ان يصحح تلك النظريات او بالأحرى اراد ان يدحضها باكتشاف نظرية جديدة، من شأنها ان تكون اكثر صحة وواقعية في تفسير حركة الكون، وبرغم ذلك فلم يكف اينشتاين عن القلق، فقد وقعت نظرياته الجديدة على الحياة العلمية في زمانه كما تقع صخرة عظيمة في مياه آسنة فتهزها هزاً عنيفاً، وحتى الآن فهناك من العلماء مثل «ريتشارد فيمان» الذي مازال يعبر عن دهشته قائلاً: لا استطيع حتى الان ان افهم كيف فكر اينشتاين في «النسبية العامة»، ويمكن لمن يتتبع السيرة العلمية لاينشتاين ان يتوقف كثيراً أمام ذكائه الحدسي، وليس الاكاديمي، ذلك الذكاء الذي افضى به الى اكتشاف افكار تم تطبيقها في أشياء عملية جداً مثل الصواريخ والقنابل الذرية. ولد اينشتاين في العقد قبل الأخير من القرن التاسع عشر في جنوبالمانيا، عندما كان علماء الطبيعة يعتقدون انهم اصبحوا قاب قوسين او ادنى من التوصل الى وصف كامل ودقيق للكون، كانوا يعتقدون ان الفضاء به مادة تتخلله وتملؤه وهي «الأثير» ، تمر من خلالها أشعة الضوء وموجات الراديو وموجات الصوت، وانهم اذا ما تمكنوا من معرفة خواص هذا الأثير، وبالذات «خواصه المطاطية» يمكنهم ان يصلوا الى تلك النظرية الكاملة التي تصف الكون بدقة، وفيما بعد سوف يضرب اينشتاين فكرة «الاثير» تماماً ويثبت أنها ليست سوى وهم لا طائل من ورائه، المهم ان ذلك الطفل العبقري قد ولد في جنوبألمانيا لابوين من الطبقة البرجوازية، الأم مغرمة الى حد الشغف بالموسيقى، والأب مهندس يعمل بحقل الصناعات الاليكتروكيميائية، وكان لها التأثير الأقوى في تكوين شخصية البرت، وفي سن الخامسة عشرة التحق اينشتاين بمعهد البوليتيكنك في زيورخ بسويسرا متمرداً على أسلوب مدرسته في ميونيخ وفي المعهد احب زميلته طالبة الفيزياء الصربية «ميليفيا» وتزوجها وانجب منها، وكان قد عمل موظفاً في مكتب لتسجيل براءات الاختراع في «برن» بسويسرا، وبدأ عام 1905 في كتابة ورقة بحثية من ثلاثة أبحاث، هذه الورقة هي بداية ابحاثه في النسبية.. التي ستتطور فيما بعد الى «النسبية العامة» ولكن هذه المرة على يد ابنة عمه «إلزا» التي تزوجها بعد طلاق ميليفيا عام 1919م، ووضع اينشتاين معادلته الشهيرة: الطاقة = الكتلة *مربع سرعة الضوء تلك المعادلة التي تعد التوحيدة في علم الفيزيقيا المعترف بها على مستوى الشارع. ومن بين النتائج المترتبة على هذه المعادلة انه اذا انقسمت او انشطرت نواة اليورانيوم الى نواتين كتلتهما الاجمالية اقل قليلاً من النواة الأصلية فإن مقداراً هائلاً من الطاقة يجري اطلاقه وفي عام 1939م وبعد ان لاحت بوادر الحرب العالمية الثانية استطاعت مجموعة من العلماء الذين تنبهوا الى الآثار التي يمكن ان تترتب على هذا الانشطار اقناع اينشتاين بأن يتغاضى عن وساوسه «السلامية»، ويكتب رسالة الى الرئيس روز فلت يحث فيها الولاياتالمتحدة على البدء في تنفيذ برنامج البحث النووي، وقد اسفر ذلك عن انشاء مشروع «مانهاتن» وانتاج القنبلة الذرية والتي فجرت فوق هيروشيما عام 1945، ويعتبر بعض الناس ان اينشتاين هو المسؤول عن ظهور القنبلة الذرية على أساس انه هو الذي اكتشف العلاقة بين الكتلة والطاقة. ومن الطريف ان اينشتاين لم يحصل على جائزة «نوبل» عام 1921 نتيجة اكتشافه لنظرية النسبية فلم تذكر لجنة الجائزة ان اينشتاين حصل على نوبل لأنه أنجز النسبية التي نظرت اليها اللجنة على انها محل خلاف، وانما حصل على نوبل لبحث مهم آخر كتبه عام 1905 عندما كان مازال يعمل في مكتب تسجيل براءات الاختراع في برن حيث اوضح ان نظرية «الكم» يمكن ان تفسر ما يسمى ب«التأثير الكهروضوئي» أي الطريقة التي تطلق بها معادن معينة بعض الكتروناتها عندما تسقط اشعة الضوء فوقها وهو ما مثل أساس «المكشاف» الضوئي الحديث وكاميرات التليفزيون. غير ان اينشتاين الذي وجد نفسه في نهايات العمر طريح الفراش، بدأ يشعر بقلق من نوع آخر، صحيح ان قلق البدايات كان قلقاً علمياً صحياً اثمر نظريات غيرت وجه الفيزياء وعلوماً كثيرة، إلا ان قلق نهاية العمر كان ثمرة تعذيب مكتوم للضمير من جراء ما انتهت اليه نظرياته بالمساهمة الفعالة في صناعة القنبلة الذرية واسلحة الدمار الشامل مما جعله يقول: ان علينا نحن العلماء الذين ادى بهم قدرهم المأساوي الى المساهمة في جعل وسائل التدمير أكثر شناعة وأكثر فاعلية، ان نعتبره واجبنا المقدس والرسمي ان نفعل كل ما في وسعنا من اجل منع استخدام هذه الأسلحة، ولكن هل استطاع اينشتاين وغيره من عباقرة العلم الذين ساهموا في صنع اسلحة الدمار منع استخدام هذه الأسلحة؟!.