الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد: فإن الله تعالى خلق الإنسان في هذه الدنيا وهيأ له مقومات الحياة لأداء رسالة عمارة الأرض وتحقيق الحكمة من خلقه، وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له، ومن هذه المقومات والنعم التي أنعم الله بها على عباده المال الذي في أيديهم، فالمال هو عصب الحياة، وهو قيام الدين والدنيا، وبه تصلح الأحوال العامة والخاصة، استخلف الله عباده بهذا المال وأمرهم بإنفاقه{وّأّنفٌقٍوا مٌمَّا جّعّلّكٍم مٍَسًتّخًلّفٌينّ فٌيهٌ (7)} [الحديد: 7] . وانفاق المال عمل تعبدي جاء الشرع بضوابط تنظم صرفه في وسطية تضمن حفظ المجتمع في ضرورياته وحاجياته وتحسيناته، وتراعي تكافل وتعاون افراد المجتمع وترابطهم. فالانفاق في الشرع نوعان: انفاق ممنوع، وهو الانفاق في السبل والوجوه المخالفة للشرع، كالانفاق في المعاصي وفي الصد عن سبيل الله وذكره، والانفاق المقترن بالتبذير أو الاسراف أو الرياء أو نحوها. وانفاق مشروع: وهو قسمان، أحدهما انفاق واجب، ومنه الزكاة والنفقة الواجبة على النفس والزوجة والأولاد والوالدين، ومن تجب له النفقة من الأقارب، ومنه كذلك الكفارات والوفاء بالنذور المالية، وأداء حقوق الغير. وثانيهما: انفاق مستحب وهو صدقة التطوع «ويقصد بها ما عدا الانفاق الواجب من الانفاق المشروع». وإذا كانت النفقة الواجبة قد حددت جهات صرفها، فإن صدقة التطوع جاء مجالها واسعا ليشمل كل جوانب الحياة وفئات المجتمع بما يكفل نماء وترابط واستقرار وصون المجتمع في جميع جوانبه. والإسلام يتشوق إلى البذل والانفاق في سبل الخير عموما ويحرص عليه ويحث عليه وقد جاءت الآيات الكريمة من كتاب الله تعالى والأحاديث الصحيحة من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في الحث على الانفاق وان فيه تطهيراً لنفس المنفق وماله، وان الله يخلف ما انفقه ويعوضه خيرا منه بزيادة المال وبركته، وان المنفق له الأجر العظيم والجزاء الوفير في الآخرة، كما حذر الإسلام في المقابل من الإمساك والتقتير والبخل والشح.. وأفضل الصدقة ما عظم نفعه وحسن وقعه واستمر ثوابه وتسلسل خيره، ولعل من أبرز الصور التي يتجلى بها هذا النوع من الصدقات الوقف. ويتميز الوقف عن غيره من الصدقات بعموم وكثرة فائدته وتسلسلها وانه صدقة جارية مستمرة، تستمر فائدتها ومنفعتها للموقوف عليه ويدوم ثوابه للواقف فهو من الأعمال التي لا تنقطع بموت الإنسان، بل هو من الآثار التي قال الله فيها:{إنَّا نّحًنٍ نٍحًيٌي پًمّوًتّى" وّّنّكًتٍبٍ مّا قّدَّمٍوا وّآثّارّهٍمً (12)} [يس: 12]. والوقف هو تحبيس الأصل «اي العين التي ينتفع بها مع بقاء أصلها» وتسبيل الفائدة أي المنفعة أو الثمرة، او ما ينتج عنهما من مال، كالعقارات من دور ودكاكين وأراض، والأشجار والحيوانات والأثاث وكتب العلم والمصاحف ونحوها. والأصل في مشروعية الوقف السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك اجماع الأمة، فقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما «ان عمر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اني اصبت ارضا بخيبر لم اصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني فيها؟ فقال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها غير انه لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث، قال: فتصدق بها عمر على ألا يباع ولا يوهب ولا يورث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها ان يأكل منها او يطعم صديقا بالمعروف غير متأثل منه أو غير متمول فيه» متفق عليه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به او ولد صالح يدعو له رواه مسلم. وقال جابر رضي الله عنه: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذا مقدرة، إلا أوقف وقد أخذ بهذه السنة السلف ومن بعدهم الخلف على مر العصور حتى عصرنا الحاضر وإن كان البعض قد غفل في العصر الحاضر عن هذه السنة. والوقف بابه واسع فيكون على المصالح العامة كالمجاهدين والمعلمين والمتعلمين، ومن يقوم بوظيفة من الوظائف الدينية، وإنشاء المساجد ورعايتها والطرق والمستشفيات وكافة مرافق المسلمين، وعلى مصالح خاصة لطائفة أو أفراد أو على فقراء، أو مساكين ونحو ذلك، فهو عام في كل أبواب الخير. وإن كانت الأوقاف الخيرية تؤدي دوراً في السابق يأتي في مقدمته بناء المساجد لكنها كانت أدواراً فردية أو متفرقة، أما بعد قيام الدولة السعودية وفقها الله ومنذ عهد الملك عبدالعزيز غفر الله له وحتى يومنا الحاضر فقد اهتمت بالأوقاف عموما وكونت لذلك الإدارات والهيئات وباشرت عمارة المساجد القديمة وتجديدها ونظمت الأوقاف المتعطلة أو تلك التي لا ناظر لها أو الموقوفة على المصالح العامة وشجعت قيام الأوقاف الخيرية ودعمتها وسعت إلى الأوقاف المجهولة للبحث عنها لإصلاحها وتهيئتها للاستفادة منها للموقوف عليه وشجعت من يدل على شيء من ذلك. كانت الدولة وفقها الله تقوم من خلال قطاعاتها المختلفة بتهيئة وإنشاء جميع المرافق العامة من مساجد وطرق ومستشفيات وخلافها كما تقوم برعاية الحالات الخاصة، محدودي الدخل والمرضى والمسنين وذوي الحالات الخاصة، إلا أنها في سبيل اتاحة الفرصة للمتشوقين إلى فعل الخير وبذل المعروف والانفاق أنشأت الجمعيات التي يمكن من خلالها المساهمة في الانفاق في سبيل الله على المرافق العامة كإنشاء المساجد والعناية بها وتعليم كتاب الله وتحفيظه والانفاق على المحتاجين على مختلف حاجاتهم فانتشرت تلك الجمعيات في كل مدينة وقرية برعاية ودعم ومساندة ومساعدة من الدولة.وفضلاً عن تلك الجمعيات في داخل المملكة أنشئت هيئات وجمعيات تؤدي خدماتها على مستوى العالم وتصل خدماتها للمسلمين في كل بقعة من المعمورة ولمختلف النشاطات إنشاء مساجد، إنشاء مدارس، دعوة إلى الله تعالى، تعليم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نشر الإسلام وبيان منهجه ورعاية الأيتام والمحتاجين والمعلمين ودعم المجاهدين في سبيل الله وإغاثة المنكوبين.إنشاء تلك المشاريع من مدارس ومساجد ومنازل للمحتاجين والمعلمين والمتعلمين ونحوها من تعليم ونشر للإسلام ضرورة تفرضها حاجة اخواننا المسلمين في كل بقاع الأرض وواجب على المقتدرين ان يؤدوه، والصرف على الإنشاء ابتداء ثم على ما بعد ذلك استمرارا بحاجة إلى الدعم والانفاق المستمر وهذا قد لا يتأتى بموازنة بين الانفاق والحاجة إلى الصرف وعلاج ذلك بالأوقاف الخيرية التي تنشأ أو تشترى وتوقف لتكون مورداً مستمراً للصرف على المشاريع المستمرة فهو الحل الأمثل والأضمن. وعندما نقول بضرورة توفير منشآت وقفية يكون لها ايراد مستمر «عمائر، دكاكين، مصانع، مزارع، وغيرها» تديرها وتقوم بها المؤسسات والهيئات الخيرية التي تشرف عليها الدولة يرى البعض ان هذا أمر صعب المنال، لأنها بحاجة إلى أموال كبيرة، والإجابة على ذلك يسيرة، وهو ان الوقف لا يلزم ان يكون الواقف فيه شخصاً واحداً لكل مشروع، بل إنه يمكن لمجموعة من الأشخاص قلّت أو كثرت ان تساهم بوقف خيري يكون مصرفه وجوه الخير تتولى تنظيمه تلك الجمعيات والهيئات. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة» صححه الألباني، وهذا الحديث يدل على ان من يستطع بناء مسجد فله ان يساهم في بنائه على قدر استطاعته ولو ان تكون مساهمته في بناء المسجد على قدر مفحص قطاة نسبة إلى المسجد «أي لو يساهم ولو بريال واحد» ومثل ذلك سائر الأوقاف. والخلاصة: ان الحاجة قائمة لرعاية المرافق العامة إنشاء وتشغيلا وصيانة كما هي قائمة للدعوة ونشر الإسلام والتعليم، وهي كذلك لرعاية المحتاجين والمعوزين غذاء ولباسا وسكنا وعلاجا ومتابعة، والدولة رعاها الله استشعرت دورها الشرعي بمسؤوليتها عن مواطني هذه البلاد من جانب، وما دعا إليه الشرع الحنيف من تكافل وتعاون مع جميع المسلمين في أنحاء الأرض، وما عليها من واجب الدعوة إلى الله ونشر الدين الإسلامي والحال انها مهبط الوحي وقبلة المسلمين وفيها الحرمان الشريفان والمشاعر المقدسة مهوى أفئدة المسلمين، وسعت إلى سد تلك الحاجة والقيام بتلك الرعاية وأداء ذلك الواجب بكل ما استطاعته. ومن جانب آخر سعت إلى وضع السياسات الشرعية التي تجعل كل فرد يساهم في سد حاجة الآخرين فقامت ممثلة بوزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالنهوض بمرفق الأوقاف ليقوم بمهامه بتنمية الأوقاف ورعايتها وتهيئتها ودعمها وتنظيمها تشغيلاً وصرفاً وحثت على إنشاء الأوقاف الخيرية التي تؤدي إلى تكافل المجتمع باستمرارية.كما انها وفقها الله بإنشائها الجمعيات والهيئات الخيرية والاغاثية هيأت للمحسنين من يكفيهم مهمة البحث عن المحتاج وعن المشروع الذي بحاجة إلى إنشاء أو صيانة، وجعلت السبيل ميسرا لمن أراد الانفاق بأن ينفق أي مبلغ يستطيعه لكونه يضم إلى ما يتبرع به غيره فيؤدي الفائدة المرجوة ويسد الحاجة المطلوبة وبذلك جعلت الطريق مهيأً لتلك الجمعيات ان تسلك مسلك الأوقاف الخيرية التي تبقي أصلها وتعطي إيرادا مستمرا يحقق المقصود ويضمن التكافل الاجتماعي بين المسلمين في أرجاء المعمورة.وقد انتشرت بفضل الله الأوقاف الخيرية التابعة لتلك الجمعيات والهيئات الخيرية، والأوقاف الخيرية المستقلة عنها وكل منها يؤدي دوره في المجتمع سواء داخل المملكة أو خارجها وهذه بشائر لتنبيه المسلمين إلى العودة إلى الأوقاف الخيرية التي يدوم نفعها، وإن كنت أرى ان الأمر بحاجة إلى زيادة توعية للناس من خلال خطب الجمعة ووسائل الإعلام إلى فضل ونفع الوقف وانه يعود بالنفع على الجميع. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم. *القاضي بديوان المظالم بالدمام