الصدارة للزعيم    هبوط طائرة اضطرارياً بسبب فأر    بلدية محافظة صبيا تستعد للاحتفال باليوم الوطني ال٩٤    الهلال يُمنع عوار من رقم قياسي    هيَّا بنا إلى جدة    معزّي.. عز وعزوة    أوكرانيا وروسيا.. هجمات وإسقاط مسيرات    «مدل بيست» تكشف عن «ساوندستورم 2024» وتقيم حفلاً موسيقياً للوطن    معرض الرياض الدولي للكتاب.. يفتح أبوابه الخميس المقبل    ترمب: الوقت لا يسمح بإجراء مناظرة ثانية مع هاريس    الفرس "لاسي ديس فاليتيز" تُتوّج بكأس الملك فيصل للخيل العربية    شرطة الشرقية: واقعة الاعتداء على شخص مما أدى إلى وفاته تمت مباشرتها في حينه    مستشفى الملك فيصل التخصصي ضمن أفضل المستشفيات الذكية عالميًا    بونو: أنا سعيد مع الهلال.. وعودة نيمار اقتربت    السعودية تتصدر G20 في نمو السياح الدوليين خلال 2024    افتتاح تطوير شعيب غذوانة بعد تأهيله    قصف إسرائيلي على جنوب لبنان.. وميقاتي: لن أتوجه إلى نيويورك    قصف في إسرائيل وسقوط الضحايا بلبنان        بلادنا مضرب المثل في الريادة على مستوى العالم في مختلف المجالات    تعزية البحرين وتهنئة أرمينيا ومالطا وبيليز    الرياض يحقق فوزاً قاتلاً على الرائد بهدفين لهدف    عرض جوي يزين سماء الرياض بمناسبة اليوم الوطني ال 94    لقاح على هيئة بخاخ ضد الإنفلونزا    بشرى سارة لمرضى ألزهايمر    "اليوم الوطني".. لمن؟    القيادة تعزي ملك البحرين في وفاة الشيخ خالد بن محمد بن إبراهيم آل خليفة    ضبط 22716 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    بعد اتهامه بالتحرش.. النيابة المصرية تخلي سبيل مسؤول «الطريقة التيجانية» بكفالة 50 ألفاً    تفريغ «الكاميرات» للتأكد من اعتداء نجل محمد رمضان على طالب    الفلاسفة الجدد    حصن العربية ودرعها    بلدية الخبر تحتفل باليوم الوطني ب 16 فعالية تعزز السياحة الداخلية    أبناؤنا يربونا    كلية الملك فهد الأمنية الشرف والعطاء    الشرقية: عروض عسكرية للقوات البحرية احتفاءً بيوم الوطن    زاهر الغافري يرحلُ مُتخففاً من «الجملة المُثقلة بالظلام»    شكر وتقدير لإذاعتي جدة والرياض    "البريك": ذكرى اليوم الوطني ال94 ترسخ الإنتماء وتجدد الولاء    مآقي الذاكرة    "تشينغداو الصينية" تنظم مؤتمر التبادل الاقتصادي والتجاري بالرياض.. 25 الجاري    اختفاء «مورد» أجهزة ال«بيجر»!    مصر: تحقيق عاجل بعد فيديو اختناق ركاب «الطائرة»    الشورى: مضامين الخطاب الملكي خطة عمل لمواصلة الدور الرقابي والتشريعي للمجلس    رياح سطحية مثيرة للأتربة والغبار على القصيم والرياض    فلكية جدة: اليوم آخر أيام فصل الصيف.. فلكياً    انخفاض سعر الدولار وارتفاع اليورو واليوان مقابل الروبل    2.5 % مساهمة صناعة الأزياء في الناتج المحلي الإجمالي    خطيب المسجد النبوي: مستخدمو «التواصل الاجتماعي» يخدعون الناس ويأكلون أموالهم    «النيابة» تحذر: 5 آلاف غرامة إيذاء مرتادي الأماكن العامة    "تعليم جازان" ينهي استعداداته للاحتفاء باليوم الوطني ال94    بيع جميع تذاكر نزال Riyadh Season Card Wembley Edition الاستثنائي في عالم الملاكمة    وزارة الداخلية تُحدد «محظورات استخدام العلم».. تعرف عليها    خطيب المسجد النبوي: يفرض على المسلم التزام قيم الصدق والحق والعدل في شؤونه كلها    خطيب المسجد الحرام: أعظم مأمور هو توحيد الله تعالى وأعظم منهي هو الشرك بالله    حصّن نفسك..ارتفاع ضغط الدم يهدد بالعمى    احمِ قلبك ب 3 أكوب من القهوة    قراءة في الخطاب الملكي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. محمد بن سعد الشويعر
الحج المبرور
نشر في الجزيرة يوم 22 - 02 - 2002

قبل أيام وفدت قوافل الحجاج من أطراف الدنيا، مسرعين إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة، مستجيبين لأمر الله بتأدية هذا الركن العظيم، بعد أن تحققت لهم الاستطاعة، جاؤوا، وقد تركوا مشاغل الدنيا من مال ومن ولد، مقتطعين من وقتهم ما يؤدون به هذا العمل التعبدي، ومن مالهم الحلال في مداخله، ما يغطي نفقات هذه الرحلة التعبدية، منذ مبارحة الديار، حتى عودتهم إليها حيث الأهل والأحبة في شوق إليهم.
تفرغوا لأداء فريضة من فرائض الله، وشعيرة ذات شأن في مفهومها وأجرها المدخر، لمن أعانه الله تعالى، على حسن الأداء والنية الخالصة في القلب، الصادقة في العمل، وبنفقة حلال، لأن الله سبحانه طيِّب لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً.
لقد افترض الله على عباده، حج بيته المحرم، الذي جعله في أقدس بقعة على وجه الأرض، وحثَّ على هذه الشعيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه قال: «أفضل الأعمال: إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله ثم حج مبرور».
فالحج لكي يكون مبروراً لا بد من التقيد بما يزكيه، والبعد عما يخدشه، وأول ذلك صفاء العقيدة، لأن العقيدة هي محور الأعمال كلها ومدارها، وتعني العقيدة تحقيق لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن يكون الفرد قاصداً بعمله وجه الله تعالى، فلا رياء ولا سمعة، ولا إشراك مخلوق في عمل هو للخالق سبحانه، لأن الله يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه» وفي سورة النساء يقول جل وعلا: «إن الله لا يغفر أن يشرك به» [48].
وأن يكون مكسبه حلالاً وغذاؤه حلالاً، ونفقته حلالاً، لأن الله طيب لا يقبل من الأعمال إلا ما كان طيباً.. كما جاء في حديث الأشعث الأغبر، الذي يمد يديه إلى السماء داعياً متضرعاً، وهو في حالة سفر، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّي بالحرام فأنى يستجاب له، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحاج الحريص على تزكية حجه، وأن يرجع منه مبروراً، ومغفوراً له، فإن عليه أن ينقيه عملاً ونفقة، فلا يرفث ولا يفسق ولا يجادل، ويهيىء نفسه لهذه العبادة بالإخلاص أولاً والتوبة مما سلف من الذنوب، مع المحافظة على شعائر الله، من صلاة في وقتها، وطهارة من الخبائث، ومن حقوق الناس، وحفظ اللسان من الغيبة والنميمة، والكذب والبهتان، وللعمل من الرياء وصوم لشهر رمضان، كما أمر الله وأداء للزكاة، لمن عنده مال يستوجب الزكاة، وأن يبتعد عن إيذاء الحجاج وكل ما يفسد حجه: كلاماً أو اعتداء، وعن الحسد لقبحه وقبح فاعله، لأن الحسد يأكل الحسنات، كما تأكل النار الحطب.
يقول سبحانه في سورة البقرة: {الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب} [الآية 197].
وفي تفسير هذه الآية يقول ابن عمر رضي الله عنهما «الرفث الجماع، والفسوق المعاصي، والجدال السّباب، والمنازعة، ويغفل بعض الحجاج عن هذه الدلالة، ويواقع أهله أثناء الحج، وقبل أن يتحلل التحلل الأكبر، وهذا يكون بالحلق أو التقصير ورمي جمرة العقبة، وطواف وسعي الحج، ويسمى طواف الإفاضة.
لأن الشيطان حريص، بأن يفسد على المسلم حجه، بارتكاب الأعمال التي تخل به.. فلكي يكون الحج مبروراً لا بد من أخذ هذه الأمور التي حذر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم منها، كما جاء في الآية الكريمة السابقة وفي نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبانته عن صفات من صفات الحج المبرور: «من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».
وهذا تأكيد من رسول الله صلى الله عليه وسلم لدلالة الآية، وما تحمل من معان، يجب على الحاج أن يضعها نصب عينيه، وهو يؤدي هذه العبادة العظيمة التي هي مرة واحدة في العمر، لمن استطاع إليه سبيلاً: نفقة وقدرة بدنية وأمناً في الطريق على النفس والمال والعرض.
وما ذلك إلا لأن الحج من أفضل الأعمال، فالحاج في عبادة منذ يبدأ الرحلة من بلده، حتى يعود إليه قاضياً لعبادته، مؤدياً شعائره كلها في أوقاتها.. فهو في سفر تعبدي، حيث يتخلَّى المسافر عن مشاغله الدنيوية، ويفارق الأهل والوطن، والمال والأحباب، استجابة لأمر الله الذي أوجب عليه هذا الركن، فهو سفر لله، وفي طاعة الله.
فقد أتى إلى الديار المقدسة بلباس متواضع، يستوي فيه الغني والفقير، والشريف والطريف، والسيد والمسود، لباس يشبه الكفن من قطعتين، تجرد فيه الحاج عن الدنيا وبهارجها، وحسر رأسه تواضعاً لله، وعلامة للتضرع، مع الإنابة لخالقه، يذكره هذا اللباس بما يأخذه من الدنيا عند فراقها بالموت، حيث ترك ما خوله الله منها، وراء ظهره، ولم يبق معه مصاحباً إلا العمل فإن كان صالحاً سعد، وإن كان فاسداً باء بالخسارة الأبدية.
وكذلك الحاج عندما جاء من بلاده مفارقاً ماله وولده، وأهله وأحبته، فهو عندما يمم الديار المقدسة ولبى لله فإنما جاء يطلب ربحاً في سفره، ولكنه يختلف عن أرباح المكاسب التجارية، وأرقامها التي تزيد الرصيد، وإنما كان مقصده ثواب الله ومغفرته، يريد الفوز بما وعد الله عباده الذي يباهي بهم ملائكته في يوم عرفات، يريد القبول ورضوان الله، وأن يرجع من حجه كيوم ولدته أمه نقياً من الذنوب طاهراً من الآثام.
ولأن الحج من أفضل الأعمال عند الله إذا أدى الحاج المناسك سليمة لا نقص فيها، وتأدب بالآداب التي علمها رسول الله أمته، فكان ثوابه عند الله جزلاً، فقد جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفضل الأعمال: إيمان بالله ورسوله، ثم جهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور».
ومن حرص على العمل السليم في الحج، وسأل عما يجهله، وطبق ما علمه على الوجه الصحيح، فإن هذا من علامات قوة الإيمان، لأن الإيمان، إذا وقر في القلب، صدقت الجوارح العمل، فأحس صاحبه بحلاوته المختلفة عن حلاوة المأكولات، وتلذذ بطعم ليس له نظير في المطعومات.. فاللسان يستحلي ذكر الله، والجوارح تسارع إلى طاعة الله، والحواس تتسابق إلى كل عمل يحبه الله، والبصر يغض عن محارم الله، والسمع ينقفل عن سماع ما لا يرضى عنه الله سبحانه، من لهو وفحش، وجدال وبهتان، وغيبة ونميمة، وكبح للنفس عن شهواتها.
فإذا تسارعت هذه الأمور في أحاسيس الحاج ووجدانه استقر الإيمان في قلبه، كما يدخل الماء في أغصان الشجرة، وتلذذ بما يقوي هذا الإيمان، كما يتلذَّذ العطشان بالماء البارد، في اليوم، الشديد حره، يشعر بذلك من وفقه الله من حجاج بيت الله الحرام، عندما كان يتنقَّل من موقف إلى موقف، ويهيىء نفسه في عمله، من مرحلة إلى مرحلة، بدءاً بجمع النفقة، وحرصه على حسن مدخل هذه النفقة، ثم نيّة الحج، تهيئة نفقة للأهل والولد، الذين سيغادرهم حتى لا يحتاجوا إلى سؤال الناس، وتكففهم، ثم يحسّ بما أمامه من مواقف، عندما يمتطي راحلته التي هيأها الله له، في كل زمن بحسبه، جواً وأرضاً وبحراً، فإذا وصل إلى الميقات الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل بلد، حيث وقّت لأهل المدينة ذو الحليفة، وهو ما يسمى اليوم آبار علي، الذي بنت فيه الدولة السعودية مسجداً كبيراً، وقد امتد إليه بنيان المدينة، ووقّت لأهل الشام الجحفة، وهي قريبة من رابغ، المدينة المعروفة اليوم، وارتبطت برابغ حالياً، على طريق الساحل، ووقّت لأهل اليمن يلملم، ووقّت لأهل نجد قرن المنازل، وهو ما يعرف اليوم باسم السيل الكبير، حيث أصبح مدينة متكاملة، ووقّت عمر بن الخطاب بالتشاور مع الصحابة قياساً لأهل العراق ذات عرق.
وقال صلى الله عليه وسلم: «هن لهن، ولمن مرّ عليهن من غير أهلهن، ممن أراد الحج أو العمرة».
حتى المسافرون بالطائرات أو بالبواخر، فإن عليهم إذا حازوا واحداً من هذه المواقيت، أو ما يسامتها وهم في طريقهم إلى مكة، ويريدون حجاً أو عمرة، فإن عليهم أن يحرموا منه، وليس القصد؛ بالإحرام اللبس فقط، فإن الحاج له أن يلبس ملابس الإحرام، الإزار والرداء للرجال، والمرأة ملابسها المعتادة مع تجنب الطيب، واللباس اللافت للنظر أو غير الساتر، للحاج أن يلبس من مسافات بعيدة، وإنما المراد بالإحرام، أن يلبس ملابس الإحرام لمن لم يلبسها، ويتجرّد من المخيط وغطاء الرأس، ثم يلبي بالنّية واللفظ: لبيك اللهم لبيك، لبيك عمرة، أو لبيك حجاً، أو لبيك عمرة متمتعاً بها إلى الحج، أو لبيك حجاً إذا كان مفرداً، أو لبيك عمرة وحجاً إذا كان قارناً. وإن كان الحج أو العمرة منوياً لأحد من الرجال والنساء، فليسمه عند التلبية فيقول لبيك حجاً أو عمرة عن فلان.
يلبي بما كان قاصداً له، وللمحرم امرأة أو رجلاً إذا خاف من عارض يأتيه، أن يشترط بعد التلبية بقوله: فإن حبسني حابس فمحلّي حيث حبستني، فقد جاءت إحدى الصحابيات وهي شاكية فأخبرت نبي الله فقال: حجي واشترطي، ولكي يظفر الحاج بالمكسب الذي عنا من أجله، وبالأجر الذي ادّخره الله لمن أخلص حجه لله، وحتى يكون حجه مبروراً، فإن عليه أن يتقيد بشرع الله في جميع مواقفه، مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في حجه، عندما قال: خذوا عني مناسككم، حتى يغتاظ منه عدو الله الشيطان يوم عرفة، عندما تنزّل الرحمات على الحجاج، ويغفر الله لهم في ذلك الموقف العظيم.
إن شعيرة الحج التي يلتقي فيه المسلمون من كل مكان، سوياً في جميع المواقف بانتظام وأدب، وما في ذلك من تهذيب للطباع، ودعوة إلى تزكية النفس والمال، وتطهيرهما من الآثام والأرجاس، لمما يجعل كل واحد من المسلمين، يتأمل في نفسه وأعمالها، والحج وما فيه من مصالح وفوائد، حيث تأتي المناسبات التعبدية التي تتكرر مع مرور الأيام في السنة ليكون في كل مناسبة درساً عملياً، في مجاهدة النفس، واغتنام الفرص، لكبح جماح النفس عن المعاصي ومغالبة الذنوب، واستحضار التوبة من كل خطأ أو زلل، لأن الله سبحانه يحب التوابين، ويحب من عباده كثرة الدعاء والاستغفار، لأنه لا يجيب الدعاء غيره، ولا يغفر الذنوب سواه.
وإن من أشد الذنوب والمعاصي الإصرار عليها، والاستخفاف بصغائرها، سواء في الحج أو في غيره، إذ يجب أن يكون الحج الذي يرجع منه من وفقه الله كيوم ولدته أمه، خالياً من الذنوب، مغفوراً له فرصة لرسم منهج للنفس البشرية في عملها، تبتعد فيه عن المداخل إلى الذنوب، لكي يستمر المرء في منهج جديد، بعد أن طهرت أعماله، وغفر الله ما تقدم من ذنبه، فيما بينه وبين خالقه، بعد أن وفقه الله للحج المبرور.
أما التوبة فيما بين الإنسان وبين حقوق الآخرين، من عرض أو مال أو دم فإن عليه أن يتحلل منهم ويعطيهم ما أخذه سراً أو جهراً ويستبيحهم مما حصل منه نحوهم، لما جاء في أخبار مشاهد القيامة، عندما يفصل الله بين العباد: أن من نال من أخيه شيئاً، فإنه يقتاد منه، حيث لا مال ولا عَرَضَ، وإنما هي الحسنات والسيئات، فيؤخذ من الحسنات لتعطى لصاحب الحق، فإذا انتهت أخذ من ذنوب المستحقين للوفاء، وطرحت عليه، ثم يلقى في النار، وذلك لمضاعفة سيئاته، ومن ثم خسارته الكبيرة.
ولذا فإن من الدروس والعظات التي يجب أن يستفيد منها الحاج الحرص بعد الحج ورجوعه إلى بلده بالحذر من المعاصي، شكراً لله الذي أعانه على منهج متميِّز في الحج، بحيث هيأ له مولاه نفقة طيبة واخلاص نية وعملاً مبروراً وتفقها في الدين وإدراكاً لحكمة الحج، وما تترك من أثر في النفوس والمجتمعات.
والاهتمام بالمحافظة على العبادات وأدائها في وقتها، على الوجه المشروع، ولا يعذر بالجهل في أمور دينه، بل عليه أن يسأل أهل الذكر، وهم العلماء العارفون المعتبرون عما يجهل من أمور دينه، حتى يعبد الله على يقين ومعرفة لأن الله قد أمر بسؤالهم.
والبعد عن الركون إلى ما لا علم عنده، أو من يتجرأ على الفتوى بغير علم، إذ الواجب على من لا يحسن أو يقول إذا سئل: لا أدري. أو سوف أبحث. حتى لا يتحمل مسؤولية إضلال الناس، وصرفهم عن الحق إلى الضلال ليحمل وزراً فوق وزره.
ولذا فإن من أهم الأمور على المسلم بعد عودته لبلاده من حجه أن يراعي أمور عباداته كلها، لأن عبادة الله على الوجه السليم هي مهمته في الحياة وهي الحكمة التي خلق الله من أجلها الثقلين، يقول سبحانه:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} [الذاريات 5657].
فيحافظ على الصلوات الخمس في أوقاتها، ويخشع فيها بقدر ما يستطيع، ويهتم بالطهارة لها، وحسن الوضوء والبعد عن النجاسات لأن الصلاة لا تقبل بدون طهارة في الثوب والبدن والبقعة.
وأن ينقي ماله بإخراج زكاته كاملة للثمانية الذين عينهم الله في سورة التوبة، وهم المستحقون لها.
كما يجب على الإنسان الاهتمام ببقية العبادات أداء ومحافظة مع الصدق في القول والإخلاص في العمل ويجب أن تكون النفقة على النفس والأهل والولد، والصدقة والزكاة، ونفقة الحج من مكسب حلال لا مداخل للحرام فيه من ربا أو سرقة أو تَعد على أموال الناس أو غير ذلك.
وأن يحرص على أن يؤدي ذلك بقلب صادق، ونية خالصة لله، لأن الأعمال بالنيات ولكل امرىء ما نوى والقلب المخلص الصادق يكون ممتلئاً بالإيمان فلا يتعمَّد صاحبه الكذب لأن الكذب من علامات النفاق والمنافقون يخادعون الله، وهو خادعهم ويراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وأخبر الله عنهم، بأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولا ناصر لهم من غضب الله وعقابه.
والحرص على حفظ الِّلسان من الخوض في أعراض الآخرين، أو الغيبة والنميمة، يقول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «كف عليك هذا» وأمسك بلسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، ونحن مؤاخذون بما نقول؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم. أو قال: على مناخرهم».
والحرص على ضبط النفس عن النوازع وكبحها عن ارتكاب ما نهى الله من الفواحش ما ظهر منها وما بطن لأن النفس أمارة بالسوء، يحركها الهوى والضعف والشيطان، فلا بد من مجاهدتها، وحثها على الطريق المؤدية إلى الخير وترغيبها فيه، وابعادها عن الشر ومساربه، لأن من عدم إجابة الدعوة وقبول العمل أن يكون المكسب حراماً أو به شبهة، ومداخل المكسب الحرام الذي يجب أن يحرص الحاج بعد عودته من الحج الاهتمام بها، وهي كثيرة منها: الربا والحيلة، والتجارة في المحرمات وغش المسلمين والسرقة والظلم، وأكل مال اليتيم والكذب والله يتوب على من تاب وأحسن العمل.
من مكارم الأخلاق:
كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه جالساً للقضاء وعنده أهل الرأي والعلم من كبار الصحابة إذ أقبل شاب قد تعلق به اثنان، وجذباه بعمامة في عنقه، وأوقفاه بين يدي أمير المؤمنين.. فأمر عمر بالكف عنه، وقال: ما قصتكما معه؟ قالا: خرج والدنا إلى حديقة له ليتنزه، فقتله هذا الشاب.
فنظر عمر إلى الشاب نظرة مرهبة، وقال: قد سمعت دعواهما فما هو جوابك؟ وكان الغلام ثابت الجنان فقال: جئت يا أمير المؤمنين إلى هذا البلد، بنياق لي، فندّ بعضها إلى حديقة أبيهما، وقد تجاوز شجرها الحائط، فتناولته ناقة بمشفرها، فطردتها عن تلك الحديقة وإذا شيخ قد برز وفي يده حجر، فضرب به الناقة فقتلها، فتناولت الحجر عينه، وضربته به فمات، هذه قصتي، فقال له عمر: أما وقد اعترفت بما اقترفت، فقد وجب عليك القصاص.
فقال الشاب: رضيت، لكن إن رأيت أن تؤخر في ثلاثة أيام حتى أؤدي أمانتي فذاك لك، فإن لي مالاً مدفوناً خص به أبي قبل موته أخي الصغير، ولا أحد يعلم به غيري، فأريد أن أسلمه إليه ثم أعود إليك، وافياً بالعهد، وإن من الحاضرين من يضمنني على كلامي هذا، وتفرّس الشاب في وجوه من في المجلس، وأشار إلى أبي ذر رضي الله عنه ، وقال: هذا يضمنني. فقال أبو ذر: أنا أضمنه يا أمير المؤمنين إلى ثلاثة أيام، فرضي عمر بذلك، وأذن للشاب بالانصراف.
وكادت تنقضي مدة الإمهال ولم يحضر الشاب فقال الخصمان: يا أبا ذر لن نبرح مكاننا، حتى تأتينا به للأخذ بثأر أبينا، وقال عمر: والله إن تأخر هذا الغلام عن موعده لأقضين فيك يا أبا ذر.
وبينما الناس يموجون حزناً على أبي ذر، إذ أقبل الشاب، ووجهه يتصبب عرقاً، فقال: قد أسلمت الصبي إلى أخواله، وأطلعتهم على ماله، ثم اقتحمت هاجرة الحر، ووفيت وفاء الحر.
فتعجب الناس من صدقه، ووفائه وإقدامه على الموت، وقال بعضهم: ما أكرمك من شاب وفيّ.
فقال الشاب: إنما وفيت كي لا يقال ذهب الوفاء بين الناس، والله قد أمر بالوفاء بالعهد، ولن نبتعد عن أمر الله.
فقال أبو ذر رضي الله عنه: وأنا يا أمير المؤمنين لما قصدني وأعرض عن الآخرين ضمنته، وما رأيته من قبل، فلم أخيّب قصده فيّ كي لا يقال: ذهب الفضل والمروءة من الناس.
وعندئذ تحرك حب الخير، والعفو عند الشابين فنطقا وقالا: قد وهبناه دم أبينا، لكيلا يقال: ذهب المعروف من الناس، فاستبشر عمر بالعفو عن هذا الشاب، وعرض عليهما دية أبيهما، من بيت مال المسلمين، فامتنعا وقالا: إنما عفونا عنه ابتغاء مرضاة الله، فلا نتبع إحساننا منّاً ولا أذى.. فسرّ الجميع بهذا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.