من يتابع المنجز النقدي لمحمد العباس يستطيع أن يدرك المعنى الحقيقي للنقد الثقافي الذي لم يولد - كما يعتقد البعض - نتيجة لموت النقد الأدبي، بل جاء نتيجة للتغير ما بعد الحداثي في مفهوم الثقافة واعتبارها مظلة كبيرة تنضوي تحتها كل أشكال التعبير الإنساني، ومنها الأدب ونقده، حيث يتم كسر الحاجز القائم بين تلك الأشكال والأجناس، وإزالة الحدود الفاصلة بين الثقافة العالية والثقافة الشعبية، وبين النصوص الرسمية الرصينة والممارسات المجتمعية العادية. في ظل هذا المفهوم الأوسع للنقد الثقافي يخرج محمد العباس من النص التعبيري اللفظي إلى نص الحياة ليتنقل ما بين المسارين الرئيسي والهامشي مستنطقًا كوامن التمظهرات الثقافية المتعددة، وكاشفًا عن دوافعها ومرجعياتها التاريخية والاجتماعية ومختزنات وعيها الفردي والجمعي. كناقد ثقافي باراكسلانس يقتحم العباس سطور النصوص الأدبية بوعي تحليلي وتأويلي ليستشف ما وراء تلك البنى الإبداعية من أنساق دالة تحيل على مضامين مخبوءة أكثر غزارة وعمقاً. ما يقدمه محمد العباس في كتاباته هو التعامل مع الثقافة كموجّه للممارسة النقدية ولمقاربة الخطابات السائدة باعتبارها أنشطة فكرية وفنية، وبذلك فهو يوسع المدار النصوصي ليشمل الجمالي والمفاهيمي والأيدولوجي بهدف استقرائها من خلال تماسها مع الضمير الإنساني. ويعتمد هذا النقد على التقاط الإحالات الرمزية لأشكال التعبير المتعددة، فنجد العباس يتقصى العلامات السيميولوجية التي تتجلى من خلالها الأنساق المضمرة، ويتعقبها في النصوص الأدبية والمسرحية والغنائية والتشكيلية والدينية والسياسية، وفي المعتقدات واللباس والألعاب والرقص والأفلام، وعلى منصات التواصل الاجتماعي وفي الإعلانات، فجميع أشياء الحياة ووقائعها هي في حقيقتها نصوص حاملة لمقاصد متوارية خلف وسائطها الرمزية، وقابلة للتأويل والقراءة الواعية. مهمة الناقد الثقافي صعبة وثقيلة تشترط سعة الأفق وكثرة الاطلاع والمتابعة الحثيثة لجميع مجريات الحياة من حوله لكل من يتمكن من ربط أطراف المعطيات الثقافية الشمولية، ومحمد العباس ناقد ومثقف مجتهد بشكل لافت، وحضوره على الساحة حضور تثقيفي، فهو حريص على إتقان مهمته بتغذية حصيلته المعرفية وبتعميق إدراكه لأساسيات ومناهج ومدارس النقد الثقافي، فلا يكاد يخلو نقد له من الاقتباسات والتداخلات مع أهم النقاد والمفكرين. وكذلك فإن إلمامه بالنصوص المكتوبة والمرئية والمسموعة، القديمة والحديثة، على المستوى المحلي والعربي والغربي يظل مبهراً، ولا يمكننا أن نغفل براعته اللغوية كتابة ومشافهة، وخصائص أسلوبه التعبيرية التي تتجلى في نحته لصيغ يبتكرها مع تدفقات أفكاره الغزيرة، من مثل التذويت، والتأوين، والتمكيث، والتمويض، والانمساخ، والانكتاب، والانهمام، والانوجاد، والمعالنة، والتهابط، والخيلولة، والروحنة، والاسترواح، والاستدماج، والاستنقاع... وغيرها من مصطلحات المعجم العباسي الثري. ** **