ماهو العقل؟ سؤال نحسبه من الوهلة الأولى أنه من الأسئلة ذات المقامات البسيطة التي يُدرك دلالته الجميع وفق إجابة مشهورة التداول، فهو الذي يمنحنا القدرة على التفكير والإبداع والإنتاج والتمييز، وهذه المقامات للقدرة هي «وظيفة العقل» وليست ماهيته، وهذا التداخل بالإنابة بين التصور المجرد بالمتصور المحسوس هو قفز على معضلة مفهوم العقل «التصور المجرد الذي لا يقابله أي متصور محسوس» عند الغذامي، وهي التي أوجدت «التبسات المفهوم في سيرته الوظيفية»- كتاب *«العقل المؤمن/ العقل الملحد»-. ولذلك يقسم الغذامي العقل في سؤال الماهية إلى مستويين، المستوى الشعبي الذي يرتبط بالتمثيل الوظيفي أو السردية الوظيفية أو كما يصفها الغذامي «السردية الحرجة» باعتبار العقل مصمم وفق التوظيف المهاري -كما ذهب هايت- لا وفق التحليل المنطقي، والمستوى النخبوي المهتم «بجوهر العقل» الماهية المجردة» عن تطبيقات الأثر التي يمكن اعتبارها هي لغة العقل، أو النفس الناطقة كما عند الجرجاني. لذا يظل سؤال ما هو العقل، من الأسئلة الموقِعة في متاهات «الماهية»، وهي حالة مرجعها لتعدد المرادِفات التي تُحسب كمعادِلات لكينونة الماهية المختلف عليها في تحديد إقرار ثابت بالإجماع والاتفاق أُحادي الدلالة. وما بين أصل ماهية العقل ومعادلاته تتمدد مساحة المصطلح إطارا ودلالة وأثرا وغالبا ما كانت تلك المساحة تتشكل وفق «أيديولوجية فاعل التأويل والصياغة». كان سؤال ماهو العقل، من ضمن موضوعات علم التفسير ثم الفلسفة الإسلامية ولم يكن إشكالية في ذاتها كما كان في الفلسفة اليونانية، بسبب ميل المنهجين إلى تشكيل خطاب توافقي بين نصي النقل والعقل. في القرآن الكريم كان القلب هو المعادل المعرفي للعقل، ولهذا جعله ابن عربي مرتبة أعلى من مرتبة العقل ونسب الاهتداء إليه لا إلى العقل. ولذا كما يقول الغذامي «إن ما يجب ملاحظته أن القرآن الكريم لم ترد فيه مفردة العقل بصيغة الاسم ولكن وردت صيغة يعقلون، ومثلها يفقهون، ويبصرون». ولو عدنا إلى القرآن الكريم سنجد أن هناك عقلا موازيا للعقل في صيغته المجردة. وهذا العقل الموازي يتشكل ضمن ثلاثة مستويات نوعية من الدلالات هي: دلالة الإنابة مثل «يعقلون، نعقل، يعقلها...» و دلالة بالترادف مثل «القلب والفؤاد واللب» ودلالة بالوظيفة «التذكر والتفكر والتفقه والتدبر». ونلاحظ أن هذه «الوسائط الدلالية» الموازية للعقل يتحقق من خلالها «المهارات الإجرائية» والتطبيقات التحليلية و«استخلاص معايير دلالات التضمن والمطابقة الالتزام» وهي التي -كما يقول الغذامي- تؤسس لنظرية العقلنة في المفهوم الإسلامي من خلال «التبصر القلبي وتعقل القلب»؛ باعتبارها مؤسِسة ومموِلة مناهج التأويل. يربط الغذامي العقلنة في المفهوم الإسلامي بنظرية التأويل ويربط تحقق العقلنة بالتفقه. وما قد يوقفك هو أنه حلّل وظيفة العقلنة من خلال الشيخ السعدي الذي عُرف بنظرته التجديدية للفقه الإسلامي، وليس من خلال منظور فكري أو فلسفي كما فعل مع استنباط مفهوم العقل في المفهوم الإسلامي. فهل يمثل علما أصول التفسير وأصول الفقه بوصفهما منهجين في صناعة التأويل ومن ثم التفقه» العقل الموازي للعقل المجرد باعتبارهما مصدر تمثيل للعقلنّة؟. ولو كان الأمر كذلك كما أشار الغذامي فهل هو يؤمن «بنخبوية العقلنة» كون تلك العلوم هي قاصرة على طائفة رجال الدين والمهتمين بالعلم الديني، وبالطرح المقابل فكل من لا يٌجيد تلك العلوم تنتفي عنه صفة العقلنة. كما قد تكون هذه الرؤية التي طرحها الغذامي للعقلنة في المفهوم الإسلامي أقرب للروح الأيديولوجية منها للروح الفكرية من خلال الإشارة إلى «حصرية العقلنة في النص النقلي وتداعياته». وينتقل الغذامي إلى تعريف العقل في المفهوم الإسلامي من خلال الجرجاني، وما يميز تعريف العقل عند الجرحاني أنه تعريف وظيفي وليس تعريفا ماهيا. فالعقل هو «الأنا» وبذلك تُصبح «الأنا» هي العقل الموازي للعقل المجرد، وباعتبار الأنا كوجود زماني ومكاني ولغوي هي مصدر ذاكرة العقل وخبراته وهي أيضا مصدر تطوره المستمر، وهذا التعريف للجرجاني يُعيدنا إلى ابن عربي الذي قيد العقل بوظيفة «القبول والتلقي»، «فقد علمنا أن العقل ما عنده شيء من حيث نفسه وأن الذي يكتسبه من العلوم إنما من كونه عنده صفة القبول»-ابن عربي- لكن ما يوقفك عند ابن عربي رغم تقييده العقل بالقبول والتلقي أي أن وجوده مرتهن بوجود سابق إلا أنه يقر بوجود «بنية معرفة» سابقة مستقلة أقدم من بنية المعرفة المكتسبة بالتلقي والقبول يسميها «هبة الله» فيقول «ونحن نعلم أن ثم علما اكتسبناه من أفكارنا ومن حواسنا، وثم علما لم نكتسبه بشيء من عندنا بل هبة من الله عز وجل». فهل هذه الهبة هي ممثل «جوهر العقل» سواء عند ابن عربي أو الجرجاني؟. عندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم عليه السلام «علمه الأسماء» وهي بمثابة «الداتا» التي ستمنحه قدرة التكيف على الحياة فوق الأرض وإعمارها، ويظن بعض الفلاسفة الذين يؤمنون بوجود جوهرا للعقل، إن ذلك الجوهر ماهو سوى «تلك الداتا» التي انتقلت من آدم إلى نسله التي أسماها ابن عربي هبة الله، وبالتالي فإن للعقل جوهر أسبق من ذاكره خبرات وتجارب القبول و التلقي. أو ما يُمكن تسميتها التهيئة الصامتة التي يمنحها الله لنا لتساعدنا في تنمية قدراتنا و مهاراتنا الفكرية والتي تمثل عقلا موازيا يحمينا من الاستغراق في متاهة التجريد. ويؤكد على أن العقل يُعرف بأثره لا بجوهره سواء أكان ذلك الأثر مؤسِسا للجوهر أو حاصلا عنه. * كتاب العقل المؤمن/ العقل الملحد-الدكتور عبدالله الغذامي-العبيكان.