لم ينكر العرب قبل الإسلام الموت لأنه واقع ملموس يشاهدونه بأم أعينهم.. يدفنون موتاهم بأيديهم، ويبكونهم بعيونهم. وفهم لبيد بن ربيعة العامري أن الموت لا يستثني أحدًا حتى الملوك: وفهم امرؤ القيس أن الموت لن يتركه مادام قد طال الناس العظماء المتقدمين: وقد اختصر القضية كعب بن زهير في بيت واحد حين قال: لكن ما أقلقهم هو معرفته متى سيأتي الموت؟ فهم زهير بن أبي سلمى أن الموت يسير خبط عشواء، فمنهم من يصيبه، ومنهم من يبقيه للأسقام والسأم: وفهم طرفة بن العبد أن كل حي في رقبته حبل، والموت ممسك بهذا الحبل، فمتى أراد جذب الحبل إليه: والفكرة نفسها يؤمن بها عبيد بن الأبرص: وأثار مصير الإنسان بعد الموت تفكير العربي؛ الموتُ انطفاء لشعلة الحياة وانحلال للجسد إلى الأبد؟ أم نقلة إلى حياة أخرى؟ وكيف ستكون حياته في العالم الثاني؟ هل يعيش عيشة راضية مطمئنة؟ أم شقية تعسة؟ لم يكن كثير من الجاهليين يؤمنون بالبعث كما يتبين ذلك من قوله تعالى: {وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} (29 سورة الأنعام)، ولذلك شَكَّل ما بعد الموت مصدرًا لمخاوفهم على نقيض المسلم الذي يتقبل الموت بنفس مطمئنة لأنه يعرف أن ثمة حياة أخرى تنتظره. وحين أدرك طرفة أن الحياة كنز كل يوم ينفد منه جزء، وعلم أن لائمَه لا يستطيع منحه الخلود، ولا دفع المنية عنه، قرر أن يعيش كما يحب، ويفعل ما يريحه ولا يقعد لانتظار الموت، فلا يمتنع عن خوض حرب ولا يمنع نفسه من الغوص في لذة. وقد بيَّن طرفة ما يشجعه على البقاء حيًا، ولخصه في ثلاثة أمور هي: التبكير للخمرة، ونجدة المستغيث، والاستمتاع بفتاة في يوم غائم، فقال: فليس اتجاه طرفة إلى الارتواء المادي اتجاهًا عبثياً أو عابثًا، بدافع من المجون واللهو؛ بل اتجاه أفرزه تأمل عميق في طبيعة الحياة وكينونتها. إذ لم يكن طرفة سادرًا في لهوه دائمًا فهو يقضي عمره بين جد ولهو، فتارة حاضر في منتدى قومه، وتارة في خمارات الديار. ويشاطره في السير على هذا المنهج الأعشى الذي يقول: لقد وجد هؤلاء أن الموت سيغتال أجسادهم وستختفي دون رجعة، وأن الخمر والمرأة هما مصدر المتعة واللذة، الذي يلبي شيئًا من شهوات الجسد، فأرادوا تعويض الجسد الفاني قبل أن يداهمه الموت. في حين وجد غيرهم كحاتم الطائي مصدرًا آخر لإسعاد نفسه، وهو إنفاق المال فيما يجلب له الذكر الحسن بعد رحيله؛ من إكرام ضيف وإعانة محتاج: ** **