خلق الله جسم الإنسان، وجعل أجزاءه مترابطة ببعضها، لا يستقيم جزء بغير الجزء الآخر، وأخبر عن هذا المفهوم العام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حثّ على أهمية ترابط المجتمع الإسلامي، ليكون أبناؤه، قوة متكافئة على من عداهم، عندما قال عليه الصلاة والسلام «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر البدن بالحمى والسهر». والنوم الذي جعله الله راحة للجسم البشري، يستجم بعده النشاط، وتعود القوة المنهكة، يمر بكل فرد من الكائنات الحية، وفي مقدمتها الإنسان الذي لا يستغني عنه، ولو أرق وطال به السهر، فإنه يقلق ويهتم، ويلتمس من العلاج، ما يعيد له النوم لينعم بلذته، وينام مع الناس، الذين يهدأون في الليل، في سبات عميق. هذا النوم الذي يطلبه الناس إذا جاء وقته، ويطلب هو صاحبه، كلما أحس بالتعب ينهك قواه، من جراء عمل متواصل، أو جهد مبذول.. وكثير من الناس، قلما يشعرون بالحكمة التي هيأها الله بهذا النوم، ولا دراية عندهم بآداب هذا النوم، التي رسمها الإسلام.. وما وراء ذلك من مصالح وفوائد. وكثيراً ما تخرج استفتاءات، وتطرح استبانات حول ماهية النوم، وأثره ومصالحه العائدة على الجسم البشري، بل على المجتمع كله.. وما يبرز إنتاج.. فتتباين الاجابات.. فمنهم من يرى ذلك في السكون والهدوء الذي يعم الجميع في الليل، ومنهم من يبرز أمامه السبب في انقطاع الحركة، وسكون دبيب الناس، ومنهم من يعرفه بما يحصل للجسم من راحة، كما تسكن به كثير من الحيوانات والطيور والهوام.. ومنهم من يرى الخلود إلى الراحة بالاسترخاء، والنوم ما هو إلا رغبة طبيعية، وميول نفسي، كما أن للأطباء باختلاف تخصصاتهم رأيهم حول النوم، وعائده على الجسم والمجتمع. وإذا رجعنا إلى المصدر التشريعي الأول في الإسلام، وهو القرآن الكريم كلام الله الخالد، فقد جاء فيه ذكر النوم تسع مرات، منها قوله تعالى: {$ّهٍوّ پَّذٌي جّعّلّ لّكٍمٍ پلَّيًلّ لٌبّاسْا $ّالنَّوًمّ سٍبّاتْا } [الفرقان : 47] . والتعبير اللغوي للباس: هو الساتر بظلامه.. وللسبات: المريح.. ولذا يرى كثير من المفسرين: أن معنى سباتاً: أي راحة للأبدان.. وتفسير الأطباء مهما عللوا جزئياته لن يخرج عن هذا المعنى. وما ذلك: إلا أن النوم جزء لا يتجزأ من قوام النفس البشرية، لا غنى لها عنه، كما أنها لا تستغني عن الطعام والشراب والهواء.. ومن رحمة الله لعباده: أن جعل من ضروريات الجسم السهلة الميسرة، لا كلفة فيها، ليتساوى في الحصول عليها: الغني والفقير، والقوي والضعيف. والأطباء وعلماء النفس يرون: أن الجسم البشري يحتاج يومياً إلى ساعات محددة من النوم، تتناسب مع العمر الزمني لصاحبه، والعمل المناط به، لكي يستكملها يومياً حتى يتجدد نشاط الجسم، ويقوى على مزاولة العمل في اليوم التالي، وأن هذه الكمية، متى نقصت عن حاجة الجسم، فإنه يضعف عمله، ويقل نشاطه، وبالتالي ينعكس على العمل المطلوب من صاحبه. فسبحان من قدر ذلك، وهيأ له أسبابه، وميول النفس إليه، ولا يملك المرء عن سلطان النوم رادعاً. ونوم النهار يختلف عن نوم الليل، إذ راحة البدن بنوم الليل أكثر، وحكمة الله اقتضت أن يقترن النوم براحته مع الليل وستره بالظلام في الآية السابقة. وقد أجريت دراسات على نسبة النشاط، والعطاء والنباهة، على من ينامون في الليل، والفارق بينهم وبين من ينامون في النهار، ويعملون في الليل.. وأي العملين أفيد ليلاً أو نهاراً.. كان ذلك في احدى الدول الغربية، فبرزت المقارنة بين الحالتين: في النوم والعمل في الوقتين المختلفين، بفارق كبير، في النسبة، وبمعدلات تفوق به من ينامون ليلاً، ويعملون نهاراً، لأن المخ والأعصاب، تهدأ في نوم الليل أكثر منها في نوم النهار: فبان في الإنتاج والصحة، ولذا فقد رؤي الخروج بنتيجة هي: أن من الأنسب أن يتم التراوح بين هؤلاء وهؤلاء، حتى يأخذ الجميع قسطاً كافياً من نوم الليل، المفيد للأذهان، والمجدد للنشاط، والمريح للأبدان، وأنسجتها الدقيقة المحكمة، والقرآن الكريم قد أوضح في موضعين عن النوم: بأنه سبات. قال أبو السعود في تفسير آية الفرقان: هذا بيان لبعض بدائع آثار قدرة الله تعالى، وحكمته وروائع رحمته، ونعمته الفائضة على الخلق، وتلوين الخطاب لتوفية مقام الامتنان حقه، واللام متعلقة بجعل، وتقديمها على مفعوليه (جعل لكم ) للاعتناء ببيان كون ما يعقبه من منافعهم، وفي تعقيب بيان أحوال الظل، بيان أحكام الليل، الذي هو ظل الأرض، من لطف المسلك، ما لا مزيد عليه، أي هو الذي جعل لكم الليل كاللباس، يستركم بظلامه، كما يستركم اللباس،(والنوم سباتا ) أي: وجعل النوم الذي يقع في الليل غالباً، قطعاً عن الأفاعيل المختصة، بحال اليقظة، عبر عنه بالسبات الذي هو الموت، لما بها من المشابهة التامة، في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى: {$ّهٍوّ پَّذٌي يّتّوّفَّاكٍم بٌاللَّيًلٌ } [الأنعام: 60] وقوله تعالى: {پلَّهٍ يّتّوّفَّى الأّنفٍسّ حٌينّ مّوًتٌهّا $ّالَّتٌي لّمً تّمٍتً فٌي مّنّامٌهّا } [الزمر :42] وقوله: {$ّجّعّلّ پنَّهّارّ نٍشٍورْا } [الفرقان:47] أي زمان بعث من ذلك السبات، كبعث الموتى، على حذف المضاف، وجعل المضاف إليه مقامه، أو نفس البعث على طريق المبالغة، وفيه اشارة إلى أن النوم واليقظة، أنموذج للموت والنشور، وعن لقمان الحكيم: «يا بني كما تنام توقظ، كذلك تموت وتنشر» (4187). وقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته آداباً كثيرة، للنوم بالدعاء والاستعداد، والوقت والهيئة لأهمية النوم من ناحية، ولرعاية الإسلام للنفس البشرية من ناحية أخرى، من ذلك الدعاء عند النوم، وذكر الله والتسمية، حيث ورد: ان الانسان عندما يتهيأ للنوم يأتيه ملك وشيطان: فالملك يقول أختم بخير، والشيطان يقول: اختم بشر، فان ذكر الله وسمَّى، وجاء بما ورد من الأدعية، حفظه الله بالملك، وإلا تولاه الشيطان، وأثقله عن صلاة الفجر وعن ذكر الله، وأكثر عليه الأحلام التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنها من تلاعب الشيطان كما ورد من الأدعية عند اليقظة: «الحمد لله الذي أحياني بعد ما أماتني وإليه النشور» رواه مسلم. ومن الآداب التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء وهيئة تقول عائشة رضي الله عنها «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتدئ بالنوم على اليمين مستقبلاً القبلة» أخرجه البخاري. قال ابن القيم الجوزية في شرحه لهذا الحديث: النوم حالة للبدن، يتبعها غور الحرارة الغريزية، والقوى إلى باطن البدن لطلب الراحة، وهو نوعان: طبيعي وغير طبيعي، فالطبيعي إمساك القوى النفسانية، عن أفعالها: وهي قوى الحس والحركة الارادية، ومتى أمسكت هذه القوى عن تحريك البدن، استرخى واجتمعت الرطوبات والأبخرة، التي كانت تتحلل، وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوى، فيتحدر ويسترخي وذلك النوم الطبيعي. أما النوم غير الطبيعي، فيكون لعرض أو مرض، وذلك بأن تستولي الرطوبات على الدماغ، استيلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها، أو تصعد أبخرة رطبة كثيرة، كما يكون عقيب الامتلاء من الطعام والشراب، فتثقل الدماغ وترخيه، ويقع امساك القوى النفسانية عن أفعالها ، فيكون النوم. وللنوم فائدتان جليلتان: إحداهما: سكون الجوارح وراحتها، مما يعرض لها من التعب، فيريح الحواس من نصب اليقظة، ويزيل الأعباء والكلال، والثانية: هضم الغذاء، ونضج الاخلاط، لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تفور إلى باطن البدن، فتعين على ذلك، ولهذا يبرد ظاهره، ويحتاج القائم إلى فضل دثار. وأنفع النوم: أن ينام على الشق الأيمن، ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة، استقراراً حسناً، فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلاً، ثم يتحول إلى الجانب الأيسر قليلاً، ليسرع الهضم بذلك، لاستمالة المعدة على الكبد، ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن، ليكون الغذاء أسرع انحداراً عن المعدة، فيكون النوم على الجانب الأيمن بداية نومه ونهايته، وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب، بسبب ميل الأعضاء إليه، فتنصب إليه المواد. وأردأ النوم: النوم على الظهر، ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم، وأردأ منه: أن ينام منبطحاً على وجهه، وفي المسند وسنن ابن ماجة، عن ابي أمامة قال: «مر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل نائم في المسجد، منبطح على وجهه، فضربه برجله وقال: قم أو اقعد فإنها نومة جهنمية» (الطب النبوي ص 27). ولذا جاء التشديد في هيئة النوم: بألا ينام الرجل منبطحاً ولا تنم المرأة مستلقية. وابن قيم الجوزية رحمه الله أعطى عن النوم أموراً لم يتطرق اليها الطب الحديث، رغم كثرة ما قدم في هذا من دراسات وتجارب، لأنه استرشد بهدي النبوة، وقارنها بالطب المعهود في وقته، مما ينبئ عن عجائب النفس البشرية، وغرائب ما أودع الله فيها من أسرار، ينغلق فهم أغلبها على العقول المرتبطة بالأمور المادية. وما ذلك إلاّ أن نوم النبي صلى الله عليه وسلم ويقظته: يعتبر أعدل نوم، وأنفعه للبدن، والأعضاء والقوى، فإنه صلى الله عليه وسلم: كان ينام أول الليل، وينهى عن النوم قبل صلاة العشاء، والحديث بعدها، ويستيقظ في أول النصف الثاني، فيقوم ويستاك ويذكر الله ويسبحه، ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له، فيأخذ بذلك البدن والأعضاء والقوى حظها، من النوم والراحة، وحظها من الرياضة مع وفور الأجر، وهذا غاية صلاح القلب والبدن، والدنيا والآخرة، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعله على أكمل الوجوه، فينام إذا دعته الحاجة إلى النوم على شقّه الأيمن ذاكراً الله وداعياً، حتى تغلبه عيناه، غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب، ولا مباشر بجنبه الأرض، ولا متخذ للفرش المرتفعة، بل له ضجاع من ادم أي من جلد حشوه ليف، وكان يضطجع على الوسادة، ويضع يده تحت خدّه أحياناً. ثم ذكر المنافع من النوم والمضار، والنوم الطبيعي والنوم المعتدل، وذكر أن أهل الجنة لا ينامون، والله سبحانه كما وصف نفسه الكريمة في آية الكرسي:{ «لا تّأًخٍذٍهٍ سٌنّةِ ولا نّوًمِ »} [البقرة:255] وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّم أمته أدعية، هي من حفظ الله لهم، لأن النائم محتاج إلى من يحرس نفسه ويحفظها، مما قد يعرض لها من الآفات، ويحرس بدنه أيضا من طوارق الآفات، ولا يحرسه في منامه إلا الله سبحانه، فكان مما علم النبي عليه الصلاة والسلام أمته من الأدعية: رابطة بين العبد النائم وبين ربّه، لأنه سبحانه هو المتولي لذلك وحده.. {قٍلً مّن ذّا پَّذٌي يّعًصٌمٍكٍم مٌَنّ پلَّهٌ إنً أّرّادّ بٌكٍمً سٍوءْا أّوً أّرّادّ بٌكٍمً رّحًمّةْ } [الأحزاب: 17] ، كما أورد نماذج من الأدعية عند النوم المروّية عنه صلى الله عليه وسلم وفي أحدها قال: ثم ختم الدعاء بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله، الذي هو ملاك النجاة، والفوز في الدنيا والآخرة، فهذا هديه في نومه صلى الله عليه وسلم (زاد المعاد 3:300 304). فمن من المسلمين اليوم يهتم بكل الأدعية المأثورة، عند نومه، وعند يقظته، أو بعضها ومن منهم يراعي الهيئة في النوم وتقسيم الوقت كما يعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الزمان.. إنهم إن وجدوا فهم من القلّة النادرة. وفي الدراسات العلمية الحديثة نجدهم يخرجون بنتائج مستقاة من الحالات العامة، وقد تخرج نظريات أخرى تتباين مع السابقة، وجاء في موسوعة المعرفة مقارنات بين نوم الإنسان الذي يجب أن يكون على جنب، وفي حجرة جيدة الهواء، وغير مكتظة، حيث يجدون ذلك مريحاً، بعكس الحيوانات التي تنام وهي ملتوية، كالكلب مثلاً والقط وغيرهما، وهناك حيوانات قليلة، تنام في أوضاع تظهر مستحيلة تماماً بالنسبة للبشر، إذْ بعض الطيور تنام واقفة على حبل، أما الوضع في النوم الذي لا يكاد يعقل، فهو نوم الخفّاش، ورأسه إلى أسفل، ومتعلق برجليه إلى أعلا، إذْ يجد ذلك مريحاً.. ولله في خلقه شؤون.. وبعض الحيوانات والحشرات، لديها نوم طويل، يسمونه علمياً البيات الشتوي، والبيات الصيفي، لتخرج في الفصل الملائم لمعيشتها (المعرفة 6:1055). ولما كان الإنسان يحتاج في نومه إلى الهدوء، فإن من نعمة الله عليه، انه عندما يستغرق في نومه، ينقفل باب السمع عنده وهذا مما يريح مخّه وأعصابه، كما تمتد أعضاء جسمه، ويتقلب في فراشه من حيث لا يدري لتنتظم الدورة الدموية وهذا من حفظ الله له. ومن عجائب البشر التي أخذها الدارسون لغرائب البدن، ولم يجدوا لها تفسيراً، ما روي عن المحامي الفرنسي آرمان جاك ليربيت المتوفى عام 1864م، أنه لم ينم طوال واحد وسبعين عاماً، وسبب ذلك أنه كان يشكو من كسر في الجمجمة عندما كان طفلاً في الثانية من عمره، حيث تداعى مدرج كان يقف عليه مع والديه وسقط الجميع، ونقل الطفل للمستشفى بحالة خطرة فاقد الوعي، وبعد أن عاد إليه رشده، وشفي مما أصابه، لم يغمض له جفن طوال الواحد والسبعين التي عاشها، ومع هذا فقد أصبح محامياً شهيراً، وكاتباً عدلاً، ولله الحكمة البالغة سبحانه، في تقديره وتدبيره. من سجايا عبدالملك بن مروان: ذكر التوحيدي في الامتاع والمؤانسة: أن مالك بن عمارة اللخمي قال: كنت أجالس في ظل الكعبة أيام الموسم عبدالملك بن مروان، وقبيصة بن ذؤيب، وعروة بن الزبير، وكنا نخوص في الفقه مرّة، وفي الذكر مرّة، وفي أشعار العرب، وآثار الناس مرة، فكنت لا أجد عند أحد منهم، ما أجده عند عبدالملك بن مروان، من الاتساع في المعرفة، والتصرف في فنون العلم والفصاحة والبلاغة، وحسن استماعه إذا حُدَّث، وحلاوة لفظه إذا حدث، فخلوت معه ليلة فقلت: والله إلى لمسرور بك، لما أشاهده من كثرة تصرفك، وحسن حديثك، وراقب لك على جلسائك. فقال: إنك إن تعش قليلاً فترى العيون طامحة إليَّ والأعناق قاصدة نحوي، فلا عليك أن تُعمل إليّ ركابك. فلما أفضت إليه الخلافة، شخصت أريده فوافيته يوم جمعة يخطب الناس، فتصديت له، فلما وقعت عينه عليّ كشر في وجهي، وأعرض عني، فقلت لم يثبتني معرفة، ولو عرفني ما أظهر نُكرة، لكنني لم أبرح مكاني حتى قُضيت الصلاة ودخل، فلم ألبث أن خرج الحاجب إليّ فقال: مالك بن عمارة. فقمت فأخذ بيدي وأدخلني عليه، فلما رآني مدّ يده إلي وقال: إنك تراءيت لي في موضع لم يجز فيه إلا ما رأيت عن الإعراض والانقباض، فمرحباً وأهلاً وسهلاً، كيف كنت بعدنا؟. وكيف كان مسيرك؟ قلت: بخير، وعلى ما يحبه أمير المؤمنين. قال: أتذكر ما قلت لك؟. قلت: نعم وهو الذي أعملني إليك، فقال: والله ما هو بميراث ادّعيناه، ولا أثر وعيناه، ولكني أخبرك عن نفسي خصالاً سمت بها نفسي إلى الموضع الذي ترى: مالا حيت ذا ودِِِّ ولا ذا قرابة قطّ، ولا شمتُّ بمصيبة عدوّ قط، ولا أعرضت عن محدّث حتى ينتهي، ولا قصدت كبيرة من محارم الله متلذذاً بها، وواثباً عليها، وكنت من قريش في بيتها، ومن بيتها في وسطه، فكنت آمل أن يرفع الله مني، وقد فعل. يا غلام بوّئه منزلاً في الدار، فأخذ الغلام بيدي وقال: انطلق إلى رحلك، فكنت في أخفض حال، وأنعم بال، وكان يسمع كلامي وأسمع كلامه، فإذا حضر عشاؤه أو غداؤه أتاني الغلام، وقال: إن شئت صرت إلى أمير المؤمنين فإنه جالس، فأمشي بلا حذاء ولا رداء، فيرفع مجلسي، ويقبل عليّ عندما أتحدث، ويسألني عن العراق مرة، وعن الحجاز مرة، حتى مضت لي عشرون ليلة. فتغدّيت عنده يوماً، فلما تفرّق الناس نهضت للقيام،