كنت في مقتبل العمر يوم عرفت الصحافة السعودية، فعبر التمدرس في المرحلة الثانوية 1390- 1393ه وفي مدارس دار التوحيد بالطائف كانت أخبار الصحف ودورها الثقافي والتنويري تتنامى إلى أسماعنا الغضة ونفوسنا المشرئبة للتعاطي الثقافي والتشكل المعرفي خارج السياق المنهجي المدرسي. كان بعض أساتيذنا يحضرون معهم للمدرسة والفصول بعض الصحف الورقية والمجلات الأسبوعية والشهرية ويوجهون طلابهم في ضرورة التواصل الثقافي مع هذه الموارد المعرفية والإفادة منها لأن المناهج الدراسية لا تعطي كل شيء. ومن هنا بدأت علاقتي بالصحف السعودية والتعود على مطالعتها والتعرّف على فضاءاتها وكتابها والتواصل معها فيما بعد للنشر والأخبار، أذكر أن صحيفة عكاظ أنشئت بالطائف عام 1379ه وكنا نعتز نحن أبناء الطائف أن في مدينتنا ولدت صحيفة مرموقة وتحمل اسم أشهر أسواق العرب وكنا نمر بجوار فندق يسمى العزيزية ويقال لنا هنا ولدت عكاظ وتشاء المقادير الإلهية ذات صيف أن أنزل في هذا الفندق / النزل وتتأكد في ذاكرتي هذه الولادة الصحفية لتتحول إلى عشق (عكاظي) فتصبح هي صحيفتي الأولى حتى دخلت صحيفة الجزيرة لتحتل المكانة الأسمى في ذاكرتي حتى اليوم. فيما بعد تعلمنا أن منطقة الحجاز: جدة ومكة والمدينة لها الأسبقية في النشوء والتنامي الصحفي عبر العهود الثلاثة التي مر بها الحجاز سياسيا أيام الدولة العثمانية وحكم الأتراك وأيام الحكم الهاشمي ودولة الأشراف ثم جاء العهد السعودي لتنطلق الرحلة الصحفية عبر ما يسمى صحافة الأفراد ثم صحافة الدمج ثم صحافة المؤسسات التي هيأت للانفجار الثقافي /الصحفي وفي كل مناطق المملكة، فلم تعد الحجاز فقط هي صاحبة السبق، حيث: عكاظ والمدينة والندوة والبلاد بل جاءت المنطقة الوسطى فوجدنا الرياض والجزيرة ثم الشرقية، حيث اليوم والشرق ثم الجنوب حيث الوطن، ثم تنامت الصحف السعودية المهاجرة : الشرق الأوسط والحياة وغيرها وكذلك الصحف باللغة الأجنبية : عرب نيوز، سعودي جازيت وغيرها ولم يكن ليحصل ذلك التنامي الصحافي لولا تطور التعليم وانتشاره في البلاد السعودية ونمو الوعي الصحفي والأدبي، واهتمام القيادة السعودية في هذا الشأن الثقافي وإيمانها بدور الصحف في الحضارة والتطوير والتنوير، ثم تأسيس المطابع التي سهلت قيام الصحف وطبعها ونشرها وتسويقها اجتماعيا عشنا مع هذه الصحف وتتلمذنا على معطياتها : السياسية والإخبارية والمجتمعية والاقتصادية والأدبية عبر أداتها الإيصالية / الورقية منذ أول إصدار لجريدة أم القرى الجريدة الرسمية للحكومة السعودية عام 1443ه / 1924م وما تبعها من صحف ومجلات سعودية ومن خلالها تعرفنا على الرواد الذين صنعوا لنا هذا المجد الصحفي منذ عبد القدوس الأنصاري ومحمد صالح نصيف وعبد الوهاب آشي وحسن عبد الحي قزاز وعثمان وعلي حافظ وأحمد عبيد مدني وصالح محمد جمال وعبد الفتاح أبو مدين وأحمد السباعي وعبد العزيز مؤمنة، كل هذه الأسماء رسخت في أذهان الأجيال الحالية لأنهم كانوا المؤسسين وكانوا الرواد وكانوا الأدباء لهذه الصحافة السعودية ويمضي الزمن والصحافة السعودية الورقية سيدة الموقف وسيدة الثقافة والنور المشع اجتماعيا وتنويريا حتى جاء عصر التحدي الرقمي والتحول التقني وأطلت الحوكمة الالكترونية بوهجها على الساحة الثقافية فبدأت صحافتنا الورقية تعاني من تراجع المبيعات وقلة الإعلانات مع ندرة الإعانات المالية الحكومية فتوقفت بعض الصحف ودمجت بعضها وقللت مطبوعاتها وصفحاتها وتوجهت إلى الإعلام الإلكتروني وذلك منذ العام 2016/ 1436، ومن هنا يبدأ عصر صحافي سعودي متماهٍ مع العولمة والمعاصرة ومسترفدا بالتقنية الحاسوبية التي أصبحت خيار الحاضر والمستقبل فانتشرت الصحف الالكترونية والمناطقية والشخصية وبدأت وزارة الإعلام في استصدار الأنظمة والقوانين لتسهيل هذا القادم الصحفي الجديد حيث تشير الدراسات أن أول صحيفة الكترونية سعودية هي إيلاف عام 2001 ثم صحيفة الوئام 2008 وفي العام 2019 تحدث المفارقة العجيبة وهو ما سجلته وزارة الإعلام السعودية أن عدد الصحف الالكترونية حوالي 625 صحيفة الكترونية مقابل 13 صحيفة ورقية! وهنا نتساءل هل هذا إيذانا بموت الورقية ونهاية عصرها؟! أم أنه بداية حالة من التعايش والاندماج الثقافي، وهذا ما أرجوه لأن الورقية لها تاريخها في الذاكرة القرائية ولن أتناساها أو أتجاهلها فلا زالت لرائحة الورق وملمس الحبر الصحفي أكبر التأثير على حالتي القرائية. ** **