يبدو أن استنطاق الهامش هو أكثر العمليات ديناميكية في الانقلاب على الحيز الثقافي. وأقول هنا (الحيز) لأشير إلى أقليته الاحتكارية، أو الوجودية إن شئنا التأصيل. ولكن ذلك الاستنطاق لم يكن لصالح الشعبوية في مقابل النخبوية، ولا في سياق منح المعنى للأشياء التي تبدو بلا معنى، ولا على سبيل مناهضة العمق الفلسفي الذي يبدو أشد تعقيدًا من الحياة نفسها، ولا من أجل استنهاض الرؤية السطحية المبسطة، أو التبسيط المخل لمعنى الزمن على الأقل. ولكنه كان استنطاق التفاهة، ورواج الفراغ، وارتفاع صوت الضجيج الهامشي ليجهز على أي محاولة للحديث من المعنيين بالمتن. وفي كل الحالات، فليس كل هامش يبدو بالضرورة هامشًا. فبعضه مهمش قسرًا -رغم عمقه- لدواعٍ أقلوية. لكن الحيز الذي يحتكره المثقفون لم يكن يملك الهيمنة أصلًا، حتى يهمش غير المعنيين بالمعرفة من مركزية مكانتهم، أو حتى يجردهم من آرائهم الاعتبارية. غير أنه كان يكتسب من أقليته القوة في ذاته والاحترام الغيري، مما جعل الانقلاب يكون على مصطلح (الجنون) من خلال تذويبه في السياقات العادية والممارسات الطبيعية لليوميات الحياتية، للحد الذي يجعل بعض المثقفين ينساقون لمغريات هذا الجنون نظرًا لمكاسبه المادية التي عادة ما تكون أشد إغراء من احترام المكانة والاستحياء. ولا يمكن تبرير هذا الخلط بالشعارات المبتدعة لإضفاء نوع من العمق على الأمر: لأن ما يحدث الآن، لا يمكن اعتباره نوعًا من السخرية لإنسان مهزوم أمام عمقه. خاصة وأن هذا الإنسان، لم يعد راغبًا في مواجهة نفسه، ولا يفهم لماذا عليه أن يواجه نفسه أصلًا. إنه ورغم التفاهة التي بلغها، صار يقلب موازين الجنون ليسقطها على أولئك الذين شُغِلوا بالعلم والمعرفة. لقد بدأت الصور الذهنية والرمزية تتهاوى في أسفل سافلين، والتشققات في أرضية واقعنا الثقافي صارت أكثر اتساعًا لابتلاع الصيغ المعبرة عن الذات والهوية والعالم، لتختفي من الوجود معاني الثقافة والأخلاق في مقابل سيادة (النكتة) السخيفة على البنية الفوقية للمجتمع. يقول نوري الجراح في مقالٍ له بمجلة الجديد: «مرة واحدة استيقظت قطاعات هائلة من الشباب والنساء على عالم عربي قديم، وعلى هامش العصر، بدا لهم كما لو أنه آيل إلى الاختفاء، ويقع على عاتقهم تاريخياً واجب دفنه، لينهض مكانه عالم عربي جديد وفي قلب العصر. وقد حدثت الاستجابة بأشكال مختلفة، بعضها منظم وبعضها اعتباطي وعشوائي، جلها سلمي قوبل بعنف مهول، استفزّ فيها عصبها الوجودي، وألجأها على الرد على العنف بالعنف. وقد حدث ما حدث من استجابة شبابية للعب دور تاريخي بإفراط عاطفي وحلمي، وبالقليل من الإمكانات الفكرية والتنظيمية في مجتمعات معطلة تاريخياً وممنوعة من امتلاك الخبرات». يكفي أن نتأمل ما يفعله مشاهير التواصل الاجتماعي، من استهزاء بالقيم، وإسقاط للرموز، والسخرية الصارخة من كل شيء، وليت هذا يدور في داخلهم وبينهم، بل إنهم بهذا التسافه وهذه التفاهة قد كونوا لأنفسهم مركزية معتبرة حتى لدى وسائل الإعلام، والجهات الرسمية التي صارت تستعين بهم لتسويق برامجهم ومبادراتهم، للاستفادة من مقدرتهم رغم (فراغهم الداخلي) على قيادة الرأي العام. وإذا كان العامة يسألون دائمًا إلى أين أخذتنا الثقافة؟ فإن الإجابة لا تكون إلا بقلب السؤال نفسه ليكون: إلى أين ستأخذنا التفاهة، وثقافة الهامش؟ ** ** - عادل الدوسري