يبدو أن موضوع علاقة النساء باللغة لا يزال موضوعاً مثيراً للاهتمام والنظر، خاصة فيما يتصل بطريقة النساء بالتعبير وعلاقتهن باللغة، ودلالتها.الحب والحرب لا يبدو أن الصلة بينهما تقف على تشابه الحروف، وإنما تتجاوز ذلك كما، يرى بعضهم، إلى سرعة التحول من حالة الحرب إلى حالة الحب وكذلك العكس، أو أن يكون أحدهما سبباً في الآخر. يرى بعضهم أيضاً أن صلة المرأة بها قوية لأنها هي التي تتصل بها الحرب ويتصل بها الحب، ولأن حبها قد يقود إلى الحرب، فإن هناك انعكاساً لهذه الحالة على اللغة المستعملة. في الدراسات الجندرية يظل سؤال البحث عن لغة خاصة بالنساء سؤالاً شرعياً وملحاً، وإن كان قد خفت بعد الدراسات المختلفة حول الموضوع، وأتذكر أن جوديث بتلر (إن لم تخني الذاكرة) تناولت موضوع رفض النساء لرغبة الرجال فيهن بأنها لا تعني حقيقة الرفض والموقف بقدر ما تعني الدعوة إلى الإصرار والرغبة في إظهار الدلال، وهو ما يؤيده المقولة المشهورة: «يتمنعن وهن رواغب». بيد أن الأمر من وجهة نظري لا يقتصر على موضوع التمنع والرغبة في الإصرار بل يتجاوز ذلك إلى موقف أكثر عمقاً ممن حولها، فبناء على ما يمكن أن أسميه بثنائية الحب والحرب السالفة التي يجر بعضها إلى بعض، وبناء على أن هذه الثنائية تقوم فيما تقوم عليه على أن سبب الحرب هو الحب بمعنى أن الغيرة على المحبوب يدعو المحب إلى الحرب للحصول عليه أو لمنع الآخرين من الحصول عليه. وفي هذا الموقف تقع المرأة موقعاً مهماً إذ إنها يمكن أن تمنع الحرب أو أن تشعلها، بوصفها السبب فيه، والعليمة بأسبابه. هذه المعرفة تنعكس على لغة المرأة وطريقة تعبيرها عن الأشياء، خاصة فيما يتصل بموقفها ممن تحب، وقد يحسن إيراد بيت توبة بن حمير الشهير: تقول القصة أن توبة عندما جاء إلى ليلى في موعدهم خرجت له سافرة، وعادتها أن تتبرقع، فاستراب من الموقف، وانصرف، ولم يقف، وكانت تلك إشارة منها إلى أن أباها وأخاها قد قعدا له بالرصد يريدان به سوءاً بعد أن سمعا من بعض الغيارى ما يقال عن حكايتهما. فهي إشارة من ليلى الأخيلية، والإشارة لغة، لحماية محبوبها، وعلى الرغم من أن الإشارة جاءت على عكس ما يمكن أن يظن، إذ يظن الظان أن تخرج لها متقنعة بناء على أن أباها وأخاها يرصدانها، حتى تظهر لهم حفاظها، ومنعتها عنه، لكنها لم تفعل ذلك، وإنما سفرت وجهها وكأنها لا تبالي بما يقولون أو يظنون بقدر ما تريد أن تحمي صاحبها. من خلال التفسير المباشر لهذه الإشارة نجد أن ليلى قد عكست اللغة، «فالتقنع» دليل المحافظة، وهي تريد أن تحمي صاحبها من أبيها وأخيها، وهنا تكون المحافظة سبيلاً لحمايتها وحماية صاحبها، لكنها عكست الإشارة وأظهرت «السفور» الذي يعني أنها تتبذل في حضرة «توبة»، ولا تتحفظ، وهو ما قد يؤكد صحة ما يقوله الشانئون. بيد أن هذا العكس، هو الذي أوصل الرسالة إلى توبة، وجعله يدرك مغزاها. هذه الحيلة اللغوية التي اعتمدتها ليلى هنا، هي التي تعتمدها النساء في أحاديثهن عن الرجال خاصة عند خوف الرقيب، فتجدهن يصفن «الجميل» ب»القبيح»، و»الحبيب» ب»الكريه». هذا إذا كن يخشين من الرقيب أن يعرف مشاعرهن أو يكرهن هن أن يصرحن لأنفسهن بمشاعرهن وكذلك الإعجاب.وأذكر في هذا الصدد أيضاً حكاية أخرى عن فتيات اجتمعن يتحدثن عمن قضين وقتهن معه، وكانت واحدة منهن تذكر شخصاً في معرض السخرية، وتنعته ب»الكريه»، وحين انفض السامر قالت لها امرأة كبيرة: يبدو أن هذا «الكريه» قد أخذ عقلك! قالت الفتاة: وكيف جاء الظن إليك؟ قالت: لم يستأثر بحديثك غيره. هنا إشارة أخرى تفهمها النساء من النساء في أحاديثهن يقلبن بها الكلام، ويخفين بعضه، وهن في معرض الحديث العادي، لا يمثل مضمون الحديث شيئاً ذا بال، ولا دلالته الحرفية بقدر ما يمثل سياقه، ومقدار حضوره في الكلام التي تتحول إلى أدوات مركزية في حمل الرسالة وفهمها. أما عندما تتصل المسألة بإشعال الحروب بأن تكون المرأة في صلة مع أحد الغيورين الفرسان أو ذوي السلطان والصولجان، ممن تدفعهم الغيرة إلى إيقاع الأذى بمن أثار هذه الغيرة أو كان سبباً فيها كما في حكاية شهريار المعروفة، فإن المرأة لا تتحرج أن تستعمل تقنية ليلى الأخيلية، فتقلب طريقة التعبير حتى تتجنب إثارة غيرة الزوج، فتعبر عن الجمال بالقبح، وعن الحب بالكره، على أمل أن ذلك لن يمنع المعنى من الوصول لمن رغب الفهم على طريقة كثير في حديثه عن محبوبته عزة: المليك هنا الزوج، ومنه تسمية عقد القران بالإملاك.