بعد تجربة عملية في حقل التراث العمراني، تعلمّت فيها الكثير على أيدي خبراء وأساتذة ومسؤولين ومتخصصين وممارسين ومجتمعات محلية، يمكنني القول إن أفضل الحلول التي من شأنها استثمار التراث العمراني ثقافياً واجتماعيًا واقتصاديًا ومعماريًا تكمن في «عودته إلى جسد المدن» التي انفصل عنها في فترات زمنية مختلفة نتيجة قرارات تخطيطية وعمرانية وإدارية ارتبطت بشكل أو بآخر بثقافة «العمران الجديد» بمختلف صورها وأشكالها التي ظهرت عليها. رحلة العودة تلك تتطلب أربعة قرارات رئيسة، الأخذ بها يُمثّل البناء المؤسسي المستقبلي الذي يمكن من المراهنة على قطاع التراث العمراني كمنافس حقيقي على مستوى المشهد الحضري، إذ إن إقناع مسؤولي المدن بدور التراث العمراني كأحد الاستخدامات القادرة على رفع كفاءة وظائفها يتطلب التعامل مع هذه المعادلة بعقلية اقتصاديات العمران التي عادة ما تُبنى عليها هذه المدن، عدا ذلك فإن «العاطفة العمرانية» وحدها لن تذهب بنا بعيداً. القرار الأول «استراتيجي» ويكمن في البدء بخطة عمل تُعنى بالانحسار التدريجي لدور الحكومة التنفيذي في أعمال تنمية مواقع التراث العمراني والاكتفاء بالدور التشريعي والرقابي والتنظيمي وتفويض القطاع الخاص ومُلاّك التراث العمراني بقيادة أعمال الترميم والمحافظة والاستثمار والتشغيل والترويج واستقطاب رؤوس الأموال وتفعيل نموذج الإدارة الذاتية في إطار عالٍ من المرونة ومنح الصلاحيات، إذا ما علمنا أن 85 في المائة (تقريباً) من مباني التراث العمراني هي حيازة خاصة. القرار الثاني «تنظيمي» ويتطلب بناء نظام جديد لسياسات وضوابط التعامل مع مواقع التراث العمراني بشكل مستقل يتضمن تشريعات جديدة لأنظمة الملكية وعقود الاستثمار والتشغيل وضوابط البناء والتعمير والتخطيط العمراني لضمان تيسير منظومة الأعمال التي ستتبنى قيادة هذا التحوّل باعتبار أن مواقع التراث العمراني ذات شخصية وخصائص عمرانية اعتبارية تفرض استقلاليتها على مستوى التشريع. القرار الثالث «فني، تقني» ويتناول أوجه الارتقاء بالقطاع الهندسي والإنشائي المختص بمسار الترميم وإعادة التأهيل والصيانة لمباني ومناطق التراث العمراني من خلال تأهيل المكاتب الهندسية والاستشارية والمقاولين المنفذين وشركات التشغيل، وتطوير أساليب وتقنيات تصنيع مواد البناء، من خلال إطلاق برامج ومنصات عمل تعمل على تنظيم وتقنين أدوار ومسؤوليات العاملين والممارسين في هذا المجال العمراني سواء كانوا أفرادًا أو فرق عمل أو مؤسسات ومكاتب وشركات ومصانع وغيرها. القرار الرابع «تعليمي» ويُركّز بشكل رئيس على تعزيز التدريب المهني المتخصص، وتأسيس مسارات تعليمية متخصصة في التراث العمراني في مراحل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، وتأصيل دور مراكز الأبحاث والدراسات والنشر العلمي مع الكليات والجامعات بهدف توظيف مخرجات التعليم والمعرفة في الحقل الميداني كأحد أهم المراجع العلمية والعملية للممارسين الميدانيين. هذه القرارات الأربعة هي «خارطة الطريق» لمواصلة الانطلاق، ولمساعدة التراث العمراني في رحلة العودة إلى جسد المدينة، وهي خلاصة أفكار وتجارب ودراسات تم استقاؤها من عقول مجموعة كبيرة من الناس الذين عملوا في هذا الحقل وبذلوا جهوداً كبيرة وخاضوا تجارب عملية منذ فترة تأسيس وبناء قطاع التراث العمراني وحتى يومنا هذا.