في يوم الخميس الموافق 25 محرم عام 1422 ، توقفت صحيفةُ (المسائية) عن الصدور إلى الأبد، وهي أولُ صحيفةٍ مسائية تصدر في المملكة العربية السعودية، وتوزع في الفترة المسائية على غير العادة، وكانت تجربة رائدة وثرية، لم تتكرر في تاريخ صحافتنا حتى الآن. وقد مرت (المسائيةُ) بنجاحاتٍ كثيرة، وبإخفاقاتٍ أيضاً خلال مسيرتها الطويلة. لقد كان وقعُ الخبر أليماً على نفوس أولئك الذين ارتبطوا بهذه المطبوعةِ الرشيقة منذ البداية، لاسيما من كانوا قريباً من (المطبخ الصحفي). فكلُ شيءٍ كانوا يتوقعونه إلا أن تتوقفَ صحيفتُهم الأثيرة، هكذا بجرة قلم، وهم ينتظرون منها التطويرَ والتجديد، ولم يكن هناك أيُ مسوغ لقرارِ التوقف، فالنت ما زال يحبو آنذاك، ولم يكن هناك مواقعُ تواصلٍ اجتماعي تصرف القراءَ عن مطالعة الصحافة الورقية! وكاتبُ هذه الأسطر من أولئك الذين أحبوا هذه الصحيفةَ، وارتبطوا بها، وهو لم يزل على مقاعدِ الدراسةِ الثانوية، قبل أن تتاحَ له -فيما بعد - فرصةُ الكتابةِ على صفحاتها منذ عام 1412 ، وإجراءُ بعض الحوارات الأدبية، والمساهمةُ في إعداد صفحة (عصاري) وهي صفحة خفيفة ومنوعة، تناوب على إعدادها بعض الزملاء. فلطالما سأل عنها الباعة في أسفاره المتعددة، في جدةَ ومكةَ والطائف والقصيم، فلقد كانت صحيفتَه المفضلة، التي منحها كلَ حبه وثقته، وكان يجد المتعةَ والفائدةَ وهو يتنقل ما بين صفحاتها الرشيقة. لقد توقفت صحيفةُ (المسائية) عن الصدور منذ عشرين عاماً، ولم يعد لها الآن في النفس غيرُ الذكرى، تعتادني بين الحين والآخر، كلما قلبت بعضَ أعدادها القديمة في أرشيفي الصحفي المتواضع. نعم أيها الإخوة، ما أقسى لحظاتِ الوداع، وما أصعبَ كلمة كان، وما زلت أتذكر بعد مرور أكثرَ من ثلاثةِ عقود، أولَ زيارةٍ لي إلى مبناها القديم في حي الناصرية، ورؤية مطابعها الضخمة، وما زلت أشمُّ رائحةَ حبرها الذي يفوق عندي أزكى عطور باريس، وكنت في كلِ زيارةٍ آخذ نسختي من (المسائية) قبل الانصراف، وألتهم صفحاتِها وأنا في طريقي إلى المنزل، فيالها من ذكرياتٍ جميلة. وفي هذا المبنى الأنيق تعرفت على عددٍ من الأساتذة من أمثال: محمد بن ناصر بن عباس، ومحمد الوعيل، والكاتب المشاكس عبدالرحمن السماري وغيرهم. وأذكر أنني أجريت حواراً مع الشاعر راضي صدوق رحمه الله، وكان الحوارُ في داخل أحد مكاتب مبنى مؤسسة الجزيرة في الناصرية، ونُشر الحوارُ على صفحةٍ كاملة، والتقط لنا مصورُ الجريدة بعضَ الصور. ومن دواعي الأسف أن موعدَ توقف (المسائية) جاء في وقت غيرِ مناسبٍ بالنسبة لي؛ لأني كنت مشغولاً - آنذاك - بالاستعداد للزواجِ وتهيئة بيت الزوجية، فلم أرثها بمقالٍ مثلما رثاها د.حمد الدخيّل بمقال مؤثر بعنوان «رثاء صحيفة» واكتفيت بشراء العدد الأخير الوثائقي والاحتفاظ به كلَ هذه السنوات، وفي النفس حسراتٌ على وأدِ هذه الصحيفة وهي في زهرةِ العمر. إن للمسائية فضلاً كبيراً علي، وعلى أبناء جيلي، ومن أفضالها الكثيرة أنها كانت السببَ في تعرفي على الصديق العزيز والإنسان النبيل، د. عبدالله الحيدري، المشرف على ملحق «إبداع» آنذاك. وأولُ مقالٍ نُشر لي في صحافتنا مع صورتي، كان على صفحاتِ (المسائية)، وكان عنوانُه «ورحل صاحب الكلمات المجنحة» وهو في رثاء الأديب والمؤرخ الأستاذ محمد حسين زيدان رحمه الله. وقبل ذلك بسنوات قليلة كنت أنشر بعضَ المقالاتِ والتعقيباتِ البسيطة في صفحات القراء في الجزيرة - الأم- وفي غيرها بدون صورة، لذلك فإني مدين لصحيفة (المسائية) بهذا الفضل؛ لأنها التي انتشلتني من صفحاتِ القراء، وأعطتني الثقةَ في نفسي للمزيد من العطاء، وإن كانت مقالاتي لا تخرج عن محيطِ الأدب وهمومِ الثقافة. ** **