للمساجد الجامعة في بلاد الإسلام منزلةٌ رفيعة ومكانةٌ عالية، تهفو إليها نفوس المسلمين، وتتعلق بها قلوبهم. ومهما اعتراها من عوادي الدهر، فاشتعل منها الرأس شيباً، وخارت قواها، وأصابها الوهن، تظل محتفظة بمنزلتها وبمكانتها ويظلُّ تاريخها متوهجاً منيراً. فقد يعاني بعضُها النسيان، ويطوي بعضَها الإهمالُ والهجران، بفعل الطبيعة أو بأيدي الإنسان، فتميل جدرانها وتتشرخ، وتنحني أسقفها وتهوِي، وقد تنهار كليةً أو تنهار أجزاءٌ منها، وقد تتعرض للهدم والإزالة ويُستعاض عن بنائها القديم المتهالك ببناء حديث عفي نظيف، وهكذا تُطوَى صفحاتها، وهكذا تدور دورة الزمان على البنيان، لكنها في جميع حالاتها، تظلُّ شاهدةً على القائمين والرُّكَّعِ السُّجُودِ فيها، وحافظةً لأصداء ذكر الذاكرين، ودروس العلم ومواعظ الخطباء والواعظين. وجامع الظاهر بيبرس، في حي الظاهر في مدينة القاهرة، أحد الجوامع الأثرية الكبيرة مساحةً وقيمة، مرَّ بتاريخ طويل من التحول والتغير، من القوة والفتوة إلى الشيخوخة والوهن، ومن العافية والعنفوان إلى الضعف والهوان، ومن الزهو والبريق إلى الخفوت والانطفاء. شرع في إنشائه الملك الظاهر بيبرس البندقداري سنة 665ه، وأكمله سنة 667ه، ليتوسط ميداناً فسيحاً خارج الحدود الشمالية لمدينة القاهرة الفاطمية، يتربع فيه منتصب القامة شامخاً بينما يفترش الفراغ حوله أرجاء المكان (هذا عندما كان). والظاهر بيبرس البندقداري، رابع سلاطين الدولة المملوكية، تولى سلطة الحكم في الفترة ما من 658- 676ه. يُعدّ المؤسس الحقيقي لها فقد أرسى دعائمها وأمدَّ نفوذها، كما يُعدّ أحد أعظم السلاطين في العصر الإسلامي الوسيط. حقق العديد من الانتصارات على الصليبيين والمغول واستولى على إمارة أنطاكية الصليبية. شهد عصره نهضة معمارية بجانب نهضته العسكرية والتعليمية، تمثَّلت في تجديد العديد من الجوامع، وإنشاء العديد من المدارس والمساجد. فقد اهتم بتجديد الجامع الأزهر وأعاد له حيويته وهيبته، وأعاد خطبة الجمعة والدراسة إليه بعد أن هُجر طويلاً. وقام بعدد من الإصلاحات في الحرم النبوي الشريف بالمدينة المنورة، وقام بتجديد مسجد إبراهيم في الخليل في فلسطين، وبتوسعة مسجد الصحابي خالد بن الوليد في مدينة حمص، كما جدَّد ما تهدم من قبة الصخرة في بيت المقدس، وجدَّد قبة السلسلة وزخرفها، والتي تعدُّ نموذجاً مصغَّراً لمسجد قبة الصخرة، تقع شرق قبة الصخرة داخل المسجد الأقصى، ويعود تاريخها إلى عهد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان عام 685م. وإضافة إلى جهوده وأعمال التجديدية للعمائر الإسلامية، فقد أمر ببناء الكثير من العمائر في مصر والشام وبيت المقدس، منها مسجده الجامع بمنطقة الحسينية في مصر، الذي مازال قائماً إلى اليوم في ميدان سُمِّي باسمه، وفي حي حمل اسمه أيضاً. والجامع ليس بعيداً عن منطقة القاهرة الفاطمية التاريخية حيث سور القاهرة الشمالي، وباب الفتوح، وجامع الحاكم بأمر الله الفاطمي، ومن ثمَّ شارع المعز لدين الله الفاطمي الشهير، فهو امتداد لها في جغرافيتها وامتداد لها في عبقها التاريخي. عندما عقد العزم على بناء هذا الجامع، اختار الظاهر بيبرس الميدان الذي شهد مرتع صباه ومكان نزهته (ميدان قراقوش)؛ ليكون مكان الجامع الكبير، وأمر بإحضار أمهر البنَّائين، وكافة مواد البناء وأدواته من سائر البلاد وجلب الرخام والخشب من خارج مصر. لم يكن تخطيطه العام يختلف كثيراً في طبيعته عن طبيعة المساجد الجامعة قبله، وإن اختلف في بعض تفاصيله عن غيره. وهو يشبه في تخطيطه، إلى حدٍ كبير، جامع أحمد بن طولون، حيث يأخذ الشكل المستطيل (الطول 108م والعرض 105م)، يتوسطه صحن مكشوف تحيط به الأروقة الأربعة، كان أكبرها رواق القبلة. عقود هذه الأروقة كانت محمولة على أعمدة رخامية فيما عدا المشرفة منها على الصحن فقد كانت محمولة على أكتاف بنائية مستطيلة القطاع. وكانت له قبة أمام المحراب كبيرة مرتفعة تعد أكبر قبة أقيمت فوق محراب. أما واجهات الجامع الأربع، أو جدرانه، فعلى شكل أسواره عالية مبنية من الحجر الجيري الأبيض المشذب، يبلغ ارتفاعها 11 متراً تقريباً، وسمك كل منها 1.65 متر، فُتحت بأعلى كل ضلع منها 18 نافذة، كان يشغل كل منها شباك جصي معشَّق بالزجاج الملون، يعلوه عقد متوج بشرفة مسننة. وامتازت الأسوار، أو الواجهات، بأبراج مقامة بأركان الجامع الأربعة، وبمداخلها الثلاثة البارزة عن واجهاتها والمحلَّاة بمختلف الزخارف والحليات. أما تغطية الجامع فلم يبق منها شيء، وإن كان من الواضح أنها كانت من الخشب فيما عدا المقصورة فقد كانت مغطاة بقبة من الآجر، الذي استعمل كذلك في بناء العقود جميعها. وكانت تنهض في منتصف الوجهة الغربية أعلى المدخل الغربي منارة أو مئذنة عالية ثم تهدمت. الكثير من هذه الهيبة طواها الزمان، فلم يبق من الجامع سوى حوائطه الخارجية وبعض عقود رواق القبلة وإن كان مما تبقى منه ينبئ عن جمال عمارته، وفخامة مبناه، ويثبت ما كان عليه من جمال ورونق في كثير من التفاصيل الزخرفية الجصية منها أو المحفورة في الحجر. ومن المؤسف حقاً، ما تعرض له هذه الجامع، طوال تاريخه الذي يربو على 750 عاماً. وما كان ليتصور الملك الظاهر يوماً، ما سيؤول إليه جامعه، وهو الذي قال، عندما أشار البعض عليه باتخاذ مناخ الجمال السلطانية مكاناً لبناء جامعه، قولته: «لا والله.. لا جعلتُ الجامع مكان الجمال»، ما كان ليتوقع أن جامعه سيصير مناخاً للإبل، ومذبحاً للمواشي، ومرتعاً لجنود الفرنجة الصليبيين. يبدو أن هذا الجامع كان له نصيبٌ مما كان من حياة صاحبه، فقد مرَّ بتحولات وتغيرات أشبه بتحولات وتغيرات حياة صاحبه، الذي تنقل من بلاد الترك إلى الشام، ومنها إلى مصر، ليفرَّ منها بعد ذلك هارباً إلى الشام، ثم يعود إلى مصر مرة أخرى ليستقر بها، ثم يموت في الشام بعد ذلك. كل هذا عبر مراحل حياتية متقلبة الحال، من حياة العبودية والرِّق إلى حياة العسكرية في ثياب مملوك، ثم الوزارة، ثم السلطنة والمُلك ثم الموت. ظلَّ الجامع ساحة للرُّكَّعِ السُّجُودِ وواحة للذاكرين، ولم تنقطع فيه الشعائر الدينية مدة تقارب قرنين من الزمان، حتى إذا أصابه بعض الوهن جدَّده السلطان المملوكي الظاهر سيف الدين جمقمق سنة 842ه (1438م). ومع مطلع القرن السادس عشر الميلادي، وجد الإهمال إليه طريقه، فتعطلت فيه الشعائر الدينية وساءت حالته وتخرَّب، قيل لاتساع مساحته وعجز الدولة عن الصرف عليه. وبعد الغزو العثماني لمصر (1517م)، حوَّله العثمانيون إلى مخزن للمهمات الحربية كالخيام والسروج وغيرها. ومن بعدهم، لم يجد الفرنسيون، خلال حملتهم على مصر (1798- 1801م)، حرجاً ولا مانعاً من أن يستولوا على الجامع ويحوّلوه إلى قلعة، وجعلوا من مئذنته بُرجاً دفاعيًا، ونصبوا المدافع على أسواره، وسكنته طائفة من الجنود الفرنسيين؛ مما تسبب فى تعرضه لمزيد من التخريب وتهدمت مئذنته. هل كان هذا انتقاماً وثأراً من صاحبه لما فعله بحملتهم الصليبية السابعة، وإلحاقه هزيمة منكرة بهم في معركة المنصورة، وأسره لمليكهم لويس التاسع وسجنه في دار ابن لقمان حتى افتدته دولته عام 1249م. يجوز أن يكون كذلك.. وغير مستبعد. لم يقتصر أمر التعدي على هيبة هذا الجامع العريق على العثمانيين الدخلاء أو الفرنسيين الصليبيين فحسب، بل امتد إلى والي مصر محمد علي باشا، الذي حوَّله إلى مخبز للجراية (الخبز) ثم مصنعاً للصابون. وكأن أراضي الدلتا الفسيحة وصحراء المقطم الممتدة ضاقت عن أن يتخذ فيها مصنعاً للصابون فاتخذه في هذا الجامع. وكان الأولى به أن يصنع معروفاً فيجدده ويعيد إليه هيبته المستباحة. في عام 1812م نُقلت أعمدة الجامع الرخامية الناصعة البياض، التي جلبت من إمارة أنطاكية، وبعض أحجاره؛ لبناء رواق الشراقوة بالجامع الأزهر، وكأنه خرابة أو محجراً يُقتطع منه الحجر. ولم تقف مأساة الجامع النبيل عند هذا الحد من الانتهاك والتعاطي المؤسف، فقد اتخذه جيش الاحتلال البريطاني بداية من عام 1882م مخبَزاً ثم مذبحاً، فإن لم يكن للجامع هيبته عند أهله، فهل سيكون له حرمة عند المُستخرِبين الإنجليز. حلَّت هذه الوظيفة محل اسم الجامع، فصار اسمه «مدبح الإنجليز» لفترة تاريخية طويلة حتى الخمسينيات من القرن العشرين، وإن توقف الذبح فيه عام 1915م. ولعل بارقة الأمل التي أطلَّت على هذا الجامع العتيق، بعد هذا التاريخ الطويل من التعدي عليه، كانت مع بزوغ الوعي القومي بالتراث والآثار العربية، فقد تسلمته لجنة حفظ الآثار العربية عام 1918م، لتنقذه من المصير المتردي المؤلم، ومما يرسف له أن نزعها كان ضعيفاً، فأصلحت بعض أجزائه ورممتها، وخاصة الجزء المحيط بالمحراب وجعلت منه مُصلَى، بينما تركت بقية الجامع ليتحول إلى منتزهٍ عام. وظل الجامع على هذه الحال من التمزق بين ما كان وما يجب أن يكون، يصارع الاختناق، ويتمسك بأنفاس الحياة، حتى عام 1970م، عندما بدأت مصلحة الآثار المصرية الاهتمام به، في محاولة منها أن تعيد إليه الحياة أو تعيده إلى الحياة. وظل الجامع طوال سنوات، وكأنه في غرفة للإنعاش، أو في حالة من التجمد أو «محلك.. سر»، فقد بقي الوضع على ما هو عليه، دون تقدم يُذكر ودون تغير ملحوظ، ولا ندري إن كان السبب في ذلك يكمن في تكاليف ترميمه، أو إعادة إعماره، الباهظة، أم لتدهور حالته وكأنه ميؤوس منه، أم لقصور الكوادر الفنية.. أم لشيء آخر لا ندريه؟ عادت بارقة الأمل من جديد للجامع الكبير عام 2007م، عندما بدأت وزارة الآثار المصرية مشروع إعادة إعماره، وما كاد العمل تظهر بشائره حتى توقف المشروع عام 2011م، ولمدة سبع سنوات كاملة، ربما لأخطاء فنية، وربما لمعوقات إدارية، أو قصور فني أو مادي. المهم أن حالة الجامع عادت للتدهور من جديد، فارتفع فيه منسوب المياه الجوفية، وانتشرت فيه الحشائش بكثافة، وكان في حالة يُرثى لها بالفعل. وعادة طاقة الأمل لتفتح من جديد للجامع العريق، فتُستأنف أعمال الترميم وإعادة الإعمار فيه عام 2018م، بدعم من حكومة كازاخستان، التي ينتمي إليها صاحب الجامع السلطان الظاهر بيبرس. وتتضمن أعمال الترميم، الترميم المعماري للأساسات والدعامات والأعمدة، واستبدال الأحجار المتهالكة والتالفة، وتخفيض منسوب المياه الجوفية فيه، وأعمال الترميم الدقيق للعناصر الزخرفية،والحليات والنقوش، والشبابيك الجصية، إضافة إلى أعمال التهيئة والأعمال الخدمية كالإضاءة وتسقيف إيوان القبلة وتغير نظم الإضاءة. ننتظر ونتشوق أن تنقشع عن هذا الجامع العريق سحابة الإهمال الممتدة لقرون، فيعود له بريقه، وتعود إليه روحه، فيؤمه المصلَّون، ويغشاه الرُّكَّعُ والسُّجُود ويتردد في جنباته صوت المؤذن من جديد. ** **