يحسن بنا قراءة هذا الحدث قراءة غير منفعلة بالتعرف على خلفياته وردود الأفعال التي صدرت من عديد من دول العالم ومن رجال الدين المسيحيين، وفي الجانب الآخر إشادات من رأى في تحويل الكنيسة إلى مسجد انتصارًا للتاريخ الإسلامي وهزيمة للعلمانية التي بدأها أتاتورك 1923م، ثم ما المكاسب السياسية التي يرمي إلى جنيها أردوغان من خطوة مقلقة كهذه قد لا تمر بهدوء كما يخيل له، وقد ظهرت إلى الآن على السطح تنديدات قوية من دول ومؤسسات دينية كنسية تشجب هذا التحويل. أصدر أردوغان أمره في 10 من يونيو 2020م الموافق 19 من ذي القعدة 1441ه بتحويل متحف «آيا صوفيا» إلى مسجد؛ بناء على قرار المحكمة الإدارية العليا في أستانبول، على أن تقام فيه أول جمعة بتاريخ 24 يونيو الجاري. وقد سبق صدور هذا القرار من أردوغان مطالبات من بعض شرائح المجتمع التركي لإعادة المتحف إلى جامع كما كان في العهد العثماني طوال 498 عاماً بعد أن حول محمد الفاتح كنيسة آيا صوفيا إلى جامع بشراء الكنيسة من أصحابها من ماله الخاص، وحين سقطت الدولة العثمانية واعتلى أتاتورك سدة الحكم في تركيا 1923م ألغى الخلافة والمدارس الدينية والتعليم باللغة العربية واستبدلها بالحروف اللاتينية وحول جامع آيا صوفيا إلى متحف، وبقي كذلك طوال 86 عاماً، وبوصول حزب (الرفاه) إلى الحكم بدأ نجم الدين أربكان إجراءات تحول محدودة عن علمانية أتاتورك؛ إلا أن العسكر أجهضوا محاولاته وحلوا حزبه، وسعى تلامذته ومنهم أردوغان إلى تغيير مسمى حزب الرفاه إلى العدالة والتنمية وانخرطوا في العمل السياسي بتدرج مواصلين مشروع معلمهم أربكان إلى أن وصل أردوغان إلى رئيس بلدية أستانبول ثم رئيس حكومة ثم رئيس جمهورية. ومع ارتفاع حدة الأصوات المطالبة بعودة المتحف إلى جامع بدأت استجابات محدودة من السلطة لتلك المطالبات؛ كالصلاة خارج فناء المتحف، وتوفير غرفة لأداء الصلاة للمسلمين والمسيحيين داخل المتحف، ثم تم نقل صلاة إحدى الصلوات على الهواء عبر التلفزيون التركي الرسمي TRT من داخل المتحف. بالعودة إلى التاريخ الإسلامي نجد أن الإسلام منح الحرية الكاملة للنصارى في ممارسة طقوسهم الدينية، وحافظ على كنائسهم؛ فلم تهدم، ولم يمنعوا من الصلاة فيها، وخير مثال على هذه الروح المتسامحة العالية وثيقة (العهدة العمرية) التي منحها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لنصارى القدس بعد أن فتحها المسلمون 15ه 638 م بعد معركة اليرموك، فقد طلب بطريرك القدس صفرونيوس مجيء الخليفة عمر بن الخطاب لتسلم مفاتيح المدينة، وقد اجتمع عمر والبطريرك في كنيسة القيامة وتعهد لهم عمر بما تضمنته الوثيقة من حقوق للنصارى وشهد عليها أربعة من الصحابة، وحين حل وقت صلاة الظهر خرج عمر من الكنيسة وسار مسافة مرمى حجر فصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، وحين سئل عن ذلك قال: خشيت إن صليت فيها (أي الكنيسة) أن يغلبكم المسلمون عليها، ويقولون هنا صلى أمير المؤمنين. يتبع