منذ أن شرّف الله العربية بنزول القرآن بها صار محور اهتمام الناس، ولما توجه به المسلمون إلى كل أصقاع العالم صار الكتاب الأول قراءة ودرسًا، وإن المسرد الذي جاء محصيًا الأعمال العلمية المتعلقة بنصه جاءت في أربعة مجلدات؛ ولكنه مسرد تجاوزه الزمن اليوم؛ إذ توالت الأعمال بعده، من مثل هذه الرسالة التي وفق إلى كتابتها ابننا الدكتور عبدالعزيز بن حمد المنيع فهي من أواخرها، فقد نوقشت يوم 16من ذي القعدة عام 1433ه، وعالجت أحكام أبي البقاء العُكْبَريّ (616ه) على الأعاريب انطلاقًا من كتابه (التبيان في إعراب القرآن)، وجاء هذا الكتاب بعد قرون من العمل النحوي فورث جهود علماء أفذاذ أغنت محتوى الكتاب. قال المنيع «جاء بعد استقرار التأليف في هذا المجال، فورث مادَّةً غنيّة من أوجه المعاني والإعراب، فجمع كثيرًا من تلك الأوجه، وأضاف إليها ما هداه إليه فهمه ونظره الثاقب، ولم يكتف بجمع أوجه الإعراب، بل وقف منها موقف الناقد، فأصدر أحكامه على كثير منها، فبيَّن ما هو راجح وما هو ضعيف وما هو خطأ، وخرَّج ما يمكن تخريجه منها وفاقًا لمذهب نحويٍّ أو وجه دلاليٍّ». كتبت الرسالة في ثلاثة فصول عالج الفصل الأوّل عبارات الأحكام عند العكبري وأنواع تلك الأحكام، وكان الوقوف على بعض الدلالات لألفاظ العكبري وعباراته التي استعملها في تحليله ونقده، ثمّ بيّنت أنواع الأحكام عنده حسب ما تستهدفه، فمنها أحكام على قراءات قرآنيّة، وأحكام على آراء النحويّين السابقين في إعراب القرآن الكريم. وأما الفصل الثاني فعالج الأسس النحويّة لأحكام العكبري، وهي كثيرة، ولذلك شغلت حيّزًا كبيرًا من الرسالة فقسّم هذا الفصل ثلاثة أقسام: الأحكام المرتبطة بالعامل، والأحكام المرتبطة بوظيفة المعمول. وأما الفصل الثالث الأسس الدلاليّة لأحكام العكبري، فبيّن المراد بالمعنى النحويّ والمعنى الدلاليّ، وكشف عن مظاهر اهتمام العكبري بالمعنى وعلاقاته بالإعراب، فذكر أثر دلالة السياق والمفردات في أحكامه، ثمّ أثر الأدوات في توجيه الحكم النحويّ عنده. إن هذه الدراسة وأمثالها تبرز جهود علمائنا القدماء وقدراتهم العقلية، وتعيننا على فهم منطلقاتهم وأصول تفكيرهم، وهو أمر يسعدنا إن نحن أردنا أن نخطو بنحونا خطوات متقدمة، فنحسن التخير، ونسد الثغرات، من غير حاجة إلى اجتلاب مناهج ونظريات غريبة عن رحم هذه اللغة الشريفة، إذ المنجز النحوي شامخ كالطود؛ ولكنه مع هذا كله يفتقر إلى إعادة نظر في بعض جزئياته ومسلماته، وهو أمر لا يفتّ في عضده بل يعيد إليه تماسكه ويعزز جانبه، وما نقود العكبري لأقوال غيره إلا دليل حيوية العمل النحوي الذي حفل بالاختلاف كما حفل بالائتلاف، وقد يكون العكبري غير موفق في بعض ما ذهب إليه كما بيّن الباحث؛ ولكن ذلك لا يغض من مكانته وعلمه، ولعل هذا العمل يكون فاتحة لأعمال علمية مثمرة تعيد إلى النحو حيويته بإذن الله وتوفيقه.