كثر الحديث في الآونة الأخيرة حول تجديد الفكر والخطاب الديني عبر المنابر الإعلامية، والمجالس العلمية، ومن خلال عقد الندوات والمؤتمرات، لتقديم الصورة الحقيقية للإسلام وتصوراته الصحيحة المأخوذة من الكتاب والسنة، والتمسك بالمحافظة على ثوابت الأمة وأصولها. وتجديد الفكر والخطاب الديني مسؤولية كبرى لتخليص الشريعة الإسلامية مما علق بها من شوائب الجهل والمحدثات، وأدران الأباطيل والضلالات. ومن واجب العلماء الاجتهاد في تقديم الخطاب الأمثل الذي يحقق مقاصد الشريعة ومصالح البشرية ويمدهم بقيم النهضة والرقي والازدهار. «الجزيرة «رصدت آراء عدد من علماء الأمة ومفتيها حول تجديد الفكر والخطاب الديني، وكانت على النحو التالي: مصادر التجديد يرى معالي الشيخ الدكتور عبدالله عبدالمحسن التركي، المستشار في الديوان الملكي، عضو هيئة كبار العلماء: أن موضوع التجديد في الفكر الإسلامي موضوع حيوي ومرتبط بثقافة المسلمين وعلومهم، ويقصد به ما يعيد للأمة في مجموعها هويتها الدينية وينمي فيها الاعتزاز بدينها، وهذا يستلزم أن ينهض العلماء بالاجتهاد في علوم الدين على تنوعها واتساع آفاقها كما نهض أسلامهم في مختلف العصور، وكان منهاجهم في ذلك تحديد مصادر التجديد في القرآن الكريم والسنة المطهرة والفقه الإسلامي باعتباره فهماً للدين وواقع الحياة. مشيراً إلى ضرورة أن تتوافر لمن يمارس مهمة التجديد الأدوات الصحيحة لفهم الإسلام ومعرفة بلغته العربية وبأصول التفسير والحديث والفقه، وأن يكون لديه فهم بالواقع الذي هو مجال التطبيق وأن تكون لديه القدرة في عرض الحقائق الدينية وتزيينه للناس حتى يظل متجدداً. ويشدد الدكتور عبدالله التركي إلى أن للتجديد خصائص لا يتحقق دونها، من أهمها صحة مناهجه والموضوعية فيه والثبات أمام مقاومته والنظرة المتكاملة للنجاح فيه باعتباره برنامج عمل ينبغي أن تتحقق آثاره الإيجابية في حياة الناس وتجديد ثقتهم في دينهم، وأنه مصدر عزهم، ولن يكون ذلك إلا بفرص عقيدة الإسلام الصحيحة في النفوس من خلال المناهج التعليمية ووسائل الإعلام والثقافة، وإقامة فرائض الدين وأحكامه في المجتمع مما يحقق للأمة أمنها الفكري والاجتماعي، ومن أبرز الأمثلة على أثر التجديد في حياة الأمم ما أحدثه الإسلام من تجديد في نفوس أبناء الجزيرة العربية على يد الشيخ المجدد محمد بن عبدالوهاب. منهجية التجديد وينبه الدكتور شوقي علام - مفتى جمهورية مصر - إلى أن قضية تجديد الفكر والخطاب الدعوي قضية شديدة الأهمية وعظيمة الخطر، وهي دور المؤسسات الدينية، وأن أهم ما نحتاج إليه في تحرير معنى التجديد والاتفاق عليه في هذا الإطار، منهجية التجديد التي تنتهجها المؤسسات الدينية، لتجديد الخطاب الفكري والدعوى، وموقفُنا من قضايا التراث، وكيفية الموازنة الدقيقة بين الثابت والمتغير؛ حيث نحتاج إلى استعادة المنهج العلمي الصحيح، الذى حاد عنه طرفا النقيض: دعاة التطرف والجمود من ناحية، ودعاة الانفلات والتغريب من ناحية أخرى، أما جماعات التطرف والإرهاب، فقد تعاملت مع التراث تعاملًا حَرفيًّا جامدًا كأنه مقدس، واستدعت خطابًا وأحكامًا اجتهادية قد استُنبطت لواقع يغاير واقعنا، فاختلقوا صدامًا لا معنى له بين التراث والمعاصرة، وما كان لهذا الصدام أن يقع لولا القراءة الخاطئة الجامدة للتراث، ولولا الخلطُ المنهجي الذى دأبت عليه هذه الجماعات قديمًا وحديثًا. وأضاف المفتي: إذا جئنا للطرف الآخر نجدهم يستقون أفكارهم من نماذج معرفية غريبة عن الإسلام، لا تمت إلى النموذج المعرفي الإسلامي الوسطي الأصيل بِصِلة، والتجديدُ عندهم لا يتجاوز معنى التجريد، أي تجريد الإسلام من ثوابته التي تُعرف عندنا بالمعلوم من الدين بالضرورة، تلك الثوابت التي تحفظُ الدينَ، ولا تتغير بتغير الزمان ولا المكان، وهي تمثل الصورة الصحيحة للدين التي تنتقل عبر الأجيال بالتواتر العملي والنقلي، بحيث إذا قلنا إنها تمثل عصبَ الدين ولحمتَهُ وسَدَاهُ، فلن نكون مبالغين بأي حال من الأحوال، فلسنا في متسع لأن نسمح لهذا العبث الحداثي أن يمارس تهوره باسم الاجتهاد والتجديد. ضوابط التجديد وحدد معالي الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس، الرئيس العام لشؤون المسجد الحرام والمسجد النبوي الشريف، ضوابط التجديد في الخطاب الديني، وذلك على النحو التالي: أولاً: أن يعتمد على النصوص والأدلة الشرعية، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ، يقول الإمام ابن تيمية: «وكل من دعا إلى شيء من الدين بلا أصل من كتاب الله وسنة رسوله فقد دعا إلى بدعة وضلالة، والإنسان في نظره مع نفسه ومناظرته لغيره إذا اعتصم بالكتاب والسنة هداه الله إلى الصراط المستقيم، فإن الشريعة مثل سفينة نوح عليه السلام من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق». الثاني: التأصيل العلمي؛ فهو قارِبُ النَّجاة دون الأفكار المضلِّلَة والمشارب الهدَّامة، وبه يترسَّخ الوعي الشرعي الصحيح لكثير من القضايا المهمة حيث لا يتمُّ ذلك على الوجه الصحيح المأمون إلا بِمُلازمة العلماء المأمونين، والرجوع إليهم، فَهُم ورثة الأنبياء، ومصابيح الدُّجَى، وهم الجهة الموثوقة في الفتوى والنوازل والمُلِمَّات، وليس أنصاف المتعلمين، ولا أشباههم، أو شُدَاتهم، فمن اشتبه عليه علم شيء فَلْيَكِلْهُ لعالمه، ولا يخبط فيه خَبْطَ عشواء، قال جل وعلا َاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ . ثالثاً: المحافظة على الأصول والثوابت لأنها لا تقبل التجديد، لذلك كان من سمات هذه الشريعة المتميزة وخصائصها صلاحيتها لكل زمان ومكان، والثبات والدوام والخلود إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ، والتجديد يكون في المستجدات التي لا نصَّ فيها ولا يوجد لسلفنا رضي الله عنهم فيها أو ما شابهها اجتهاد. رابعاً: أن يهدف التجديد إلى تصحيح الانحرافات العقدية والفكرية والبدع العملية والسلوكية؛ فالإسلام وحده هو الذي اهتم بالروح والجسد معًا، بخلاف الشرائع والأنظمة الأخرى التي اهتم بعضها بالجسد على حساب الروح فكان الانحلال الأخلاقي، والآخر اهتم بالروح على حساب الجسد فكان الانحراف الفكري والسلوكي، مشيراً إلى أن التجديد الصحيح للخطاب الديني إنما يكون تجديدًا في الأداء دون المساس بالثوابت والمبادئ، وهو لا يعني قصورًا سابقًا في الخطاب ولكنه تجديدٌ يتطلبه اختلاف الزمان وتطور الوسائل والأدوات، ويكون في أسلوب الخطاب لا في روحه ورسالته، وهو بهذا مطلب شرعي، وقضية حيوية للمجتمع لتجاوز هُوة التخلف، فيتواصل مع التراث ولا ينغلق عليه، بل ينفتح على العصر وآلياته وتقاناته، فيكون المقصود من التجديد إحياء وبعث معالم الدين العلمية والعملية بحفظ النصوص الصحيحة نقية، وتمييز ما هو من الدين مما هو ملتبس به، وتنقيته من الانحرافات والبدع النظرية، والعملية والسلوكية، وبعث مناهج النظر والاستدلال لفهم النصوص على ما كان عليه السلف الصالح لتقريب واقع المجتمع المسلم في كل عصر إلى المجتمع النموذجي الأول من خلال وضع الحلول الإسلامية لكل المستجدات والنوازل والملمَّات، وجعل أحكام الدين نافذة على أوجه الحياة. مدارس متمكنة ويؤكد فضيلة الدكتور أحمد الحداد - كبير مفتين مدير إدارة الإفتاء بدبي، أن تجديد أمر الدين في الأمور الاجتهادية مما له صلة بأمور الدنيا هو من الأمور المتفق عليها بين علماء المسلمين، وقد بشّر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الأمة ببقاء هذا التجديد ما بقيت الأمة، وذلك بما أخرجه أصحاب السنن من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال «إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»، والسر في ذلك أن ديننا دين كل زمان ومكان، فكما كان دين الأمة عند نزوله، فكذلك هو دينها بعد 14 قرناً، ودينها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ومعلوم أن قضايا الأمة تتجدد بين كل حين وآخر، وبلد وآخر كذلك، فلا يمكن أن تكون النصوص الفقهية العملية وافية بحاجات الناس اليوم، فضلاً عمن يأتي بعدنا، فكان من حفظ الله لهذا الدين أن هيأ له رجالاً عدولاً مؤهلين تأهيلاً كاملاً يجددون أمره فيما استجد للناس من نوازل تحتاج إلى بيان شرع الله تعالى فيها، وهذا أمر استقر عليه علماء الأمة منذ قرون، وعاشته واقعاً في كل عصر، مشيراً إلى أن الأمة تحتاج إلى هذا التجديد في أمور المعاملات التي تشعبت وتغيرت أنماطها كثيراً، وفي الأمور الدعوية، وعلاقة المسلم بالآخر، وفي بعض الأحوال الشخصية والاجتماعية والدولية، وغير ذلك مما ليس فيها نصوص قطعية، بل نصوصها ظنية، قد يتغير فيها الاجتهاد من حين إلى آخر، أو أنها مأخوذة بحكم العادة المحكمة، أو القياس الجلي، أو الاستصحاب، أو المصلحة المعتبرة، والأمة الإسلامية - بحمد الله - قد قامت بكثير من هذا التجديد الفقهي، في قضايا كثيرة، فالعلماء في المجامع الفقهية والمؤسسات العلمية والمالية والفكرية، استنبطوا من تلك النصوص العامة والقواعد الحاكمة أحكاماً ملائمة لزماننا، فاستقر الكثير من الأحكام الفرعية لتلك المسائل، وسيظل هذا التجديد يتجدد ما بقي العلماء الأكفاء المؤهلون تأهيلاً فقهياً يمكِّنهم من الاجتهاد في النوازل المستجدة. ونبه الدكتور أحمد الحداد إلى ضرورة تهيئة مدارس متمكنة متخصصة في العلوم الشرعية من تفسير وحديث وفقه وأصول ومقاصد، والعلوم الآلية من لغة ونحو وصرف وبيان ومعان وفلسفة.. حتى تُخرِّج لنا هذا النوع من العلماء الذين يتمكنون من الاجتهاد وإرشاد العباد، وذلك لأن واقع الحال أن الأمة غافلة عن هذا التأسيس العلمي الذي يمكن من الاجتهاد، ويوشك إذا ذهبت البقية الباقية من العلماء المتمكنين الذين أفادوا الأمة في نوازلها المتجددة أن يتحقق فيها ما حذر منه المصطفى، عليه الصلاة والسلام، فيفسد على الناس الدين، كما فسدت الديانات الأخرى التي حُرِّفت وبُدِّلت وتغيرت مقاصدها وفروعها، فعندئذ لا تلوم الأمة إلا نفسها، فإنه قد أعذر من أنذر، أما أن نظل ننشد التجديد، ولم ننشئ له رجالاً مجتهدين، فإن ذلك مدعاة للمتهورين والجاهلين للتَّسور على الثوابت الدينية لهدمها أو تفريغها من محتواها ومقاصدها، وذلك هدم للدين لا تجديد له، ولكن الله حافظ دينه.