أكد إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس في خطبة الجمعة أمس أنه في زمن الفتن الصَّحْمَاء، والمحن الدَّهْمَاء، وبين أحداث التاريخ ووقائع الزمان، تَنْبَجِسُ قَضايا تأصيلية مُهِمَّة، تحتاج إلى وقفات وتأملات، لتحديد المقاصد والمنطلقات، والوسائل والمآلات؛ لأنها قد تندرج تحت حروب فكرية ممنهجة؛ ترمي إلى فرض أنماط ثقافية، ومفاهيم ومصطلحات غير شرعية في المجتمعات الإسلامية. وقال إن ذروة هذه القضايا قضية تجديد الخطاب الديني، إذ تزداد خطورتها حينما تعلو أصوات وخطابات التطرف والتشدد، والغلو والطائفية، والإقصاء والحقد والكراهية. وأوضح أن الشريعة الإسلامية استوعبت قضايا الاجتهاد والنوازل، فهي ليست جامدة، أو أحكاما متحجرة بل مرنة متجددة، لا تنافي الأخذ بالتجديد في وسائل وآليات العصر والإفادة من تقاناته، في مواكبة للمعطيات والمكتسبات، ومواءمة بين الثوابت والمتغيرات والأصالة والمعاصرة. وأضاف السديس أن أُولى ضوابط التجديد الموثوق في الخطاب الديني أن يعتمد على النصوص والأدلة الشرعية، وثاني الضوابط التأصيل العلمي؛ فهو قارِبُ النَّجاة دون الأفكار المضلِّلَة ولا يتمُّ ذلك إلا بِمُلازمة العلماء المأمونين، والرجوع إليهم، فهم الجهة الموثوقة في الفتوى والنوازل والمُلِمَّات، وليس أنصاف المتعلمين، ولا أشباههم، أو شُدَاتهم، فمن اشتبه عليه علم شيء فَلْيَكِلْهُ لعالمه، ولا يخبط فيه خَبْطَ عشواء. وثالث الضوابط هو المحافظة على الأصول والثوابت لأنها لا تقبل التجديد، لذلك كان من سمات الشريعة وخصائصها صلاحيتها لكل زمان ومكان، والثبات والدوام والخلود والتجديد يكون في المستجدات التي لا نصَّ فيها ولا يوجد لسلفنا فيها أو ما شابهها اجتهاد، أما الضابط الرابع فهو أن يهدف التجديد إلى تصحيح الانحرافات العقدية والفكرية والبدع العملية والسلوكية. وأوضح إمام وخطيب المسجد الحرام أن التجديد الصحيح للخطاب الديني إنما يكون تجديدا في الأداء دون المساس بالثوابت والمبادئ، وهو لا يعني قصورا سابقا في الخطاب ولكنه تجديدٌ يتطلبه اختلاف الزمان وتطور الوسائل والأدوات، ويكون في أسلوب الخطاب لا في روحه ورسالته، وهو بهذا مطلب شرعي، وقضية حيوية للمجتمع لتجاوز هُوة التخلف، فيتواصل مع التراث ولا ينغلق عليه، بل ينفتح على العصر وآلياته وتقاناته فيكون المقصود من التجديد إحياء وبعث معالم الدين العلمية والعملية بحفظ النصوص الصحيحة نقية، وتمييز ما هو من الدين مما هو ملتبس به، وتنقيته من الانحرافات والبدع وبعث مناهج النظر والاستدلال لفهم النصوص على ما كان عليه السلف الصالح لتقريب واقع المجتمع المسلم في كل عصر إلى المجتمع النموذجي الأول من خلال وضع الحلول الإسلامية لكل المستجدات والنوازل والملمَّات، ووضع ضوابط الاقتباس النافع الصالح من كل حضارة على ما أبانته نصوص الكتاب والسنة. وأكد أن الدعوة إلى الله لا تنتشر بالخطاب الديني المتطرف أو نشر الغلو، وإنما تنتشر بالاعتدال والوسطية؛ فالخطاب الديني يبني ولا يهدم، ويجمع ولا يفرق، ويُعَمِّرُ ولا يُدَمِّرُ، ويشيد ولا يبيد، شعاره الرحمة والتسامح، ودِثَارُه الحوار والتعايش. ورأى السديس أن المُؤَمَّل من تجديد الخطاب الديني هو الحفاظ على ثوابت الأمة وأصولها أن تطالها يد العبث والتغيير، وتخليص الشريعة مما علق بها من شوائب الجهل والمحدثات، وأدران الأباطيل والضلالات، ومحاربة التعصب المذهبي والتقليد المذموم، اللذين يبثان في الأمة الفُرْقَة والشقاق. وشدد على أهمية تجديد الخطاب للشباب لاحتوائهم، وتحصينهم، وحوارهم، وتحفيزهم، وتتويجهم، لئلا تغلب العاطفة العاصفة على العقل والاتزان، والحكمة في الأمور، وكذا خطاب المرأة في تمكينها التمكين الشرعي في خدمة دينها ووطنها ومجتمعها، والتجافي عن خطاب الإقصاء والكراهية، والتفرقة والطائفية، والحزبية والمذهبية. السعودية تنبري للتجديد وفق المنهج السديد وعن المملكة العربية السعودية قال السديس في خطبته هي دُرَّة الأوطان وقِبْلَةُ المسلمين، ومأرزُ قضاياهم أجمعين، بلادُ الحرمين الشريفين تنبري على دَأبِها في التجديد وفق المنهج السديد؛ من خلال الوعي العميق خاصة وقت الأزمات والملمات، فبرعاية كريمة من ولاة أمر هذه البلاد المباركة يُشاد بكل الإعزاز والإجلال بوثيقة مكةالمكرمة الصادرة عن هيئة علماء الأمة الإسلامية التابعة لرابطة العالم الإسلامي، وما اشتملت عليه من توصيات نافعة في تجديد الخطاب الديني وأثره الحضاري والعالمي والإنساني، من خلال الدعوة للحوار والتواصل الحضاري، ومواجهة أفكار التطرف والكراهية، ونشر الفكر الوسطي المعتدل، تلك شذرات في فصل الخطاب في قضية تجديد الخطاب.