يتحدّث أبو العلاء المعري، في هذين البيتين، عن ظاهرة تفشيّ الجهل في زمانه، مما اضْطره أنْ يجاري الناس من حوله؛ لأنّه لم يجد للعلم أيّة فائدة مرجوّة، فتجاهل معهم، وتصنّع عدم المعرفة، واندّس بينهم؛ حتى أصبحوا يعدّونه جاهلًا مثلهم، بعد أنْ غابت الحِكمة والرَصَانَةُ والمعرفة، ولم يعدْ لها أيّ سوقٍ، بينما انتشرت بضاعة الحَماقَةِ والجَهالة والسفاهَةِ... ويُبدي أبو العلاء المعري، دهشته لِما وصلت إليه الحال في عصره، حيث أصبح السفهاء والحمقى والجُهلاء؛ يُنسبون لأنفسهم الفضائل والمَآثِر والمَحَاسِن، بينما الفضلاء والكرماء؛ يتبارون فيما بينهم للحديث عن النواقص التي يعانون منها!! أمّا والحالُ هكذا؛ فإنّ أبو العلاء المعريّ لو عاش في عصرنا هذا؛ عصر التقنيات الحديثة، وعصر مواقع التواصل الاجتماعي؛ فإنّه سوف يجد عجبًا، وسوف تُعْجزه الكلمات عن وصف الحالة المترديّة للعلم والثقافة، والتي أصبحت كلماتٍ لا معنى لها؛ يتبادلها النّاس فيما بينهم، وسوف يرى الهوان الذي تعيشه لغتنا الجميلة، والتي أصبحت مُبتذلة على كلّ لسان، وتُباع في سوق النخاسة الثقافيّة؛ كبضاعة مُزجاة، ويُروّج لها في مواقع التواصل الاجتماعي؛ هذه المواقع التي جعل منها البعض وسيلتهم ليُبرزوا شخصيتهم ويظهروا مهارتهم في جذب المُعجبين، أو للترويج لإطلالاتهم المتكررة وصورهم المتعددة!!... بينما آخرون وجدوا فيها وسيلة للتسلية وتقضية الوقت، وقتله في زمنٍ أصبحت الساعات ثقيلة، ولم يعودوا يطيقوا دقائقها!!... وآخرون رأوها فرصة رائعة لتنصيب أنفسهم قُضاةً على البشر، وتوزيع الاتهامات ذات اليمين وذات الشمال، وإصدار الأحكام، في محاكمهم؛ التي لا تتطلّب حضور المُتهمين، ولا تحتاج لأدلة إدانة؛ لأنّ لديهم شهود زور وشائعات وأقاويل!! مواقع التواصل الاجتماعي؛ أصبحت من المِهن الحديثة، والتي أصبحت شائعة ومبذولة أو بالأحرى مُبتذلة؛ يسهل على كلّ إنسان الدخول إليها؛ لأنّه لا يحتاج لأية تزكية أو شهادة، ولا تتطلّب منه تقديم أوراقٍ ووثائق، ولا تكلّفه الجهد الكثير، وما عليه سوى اختيار أفضل صورة له ونشرها على الملأ؛ ثم يقوم بدعوة أصدقاء ومريدين له؛ يختارهم بعناية أو بدونها، وقد ينتقي البعض منهم على هواه ويترك آخرين لأنّه يجدهم لا يتناسبون مع مزاجه... ولا شك بأنّ الفكرة التي جاءت بها مواقع التواصل الاجتماعي؛ هي التواصل بين الناس؛ قد فقدت قيمتها، ولم تعد وسيلة للتواصل وابتعدت كثيرًا عن غايتها الأولى؛ وأخذها الناس مآخذًا بعيدًا؛ ولعلّ أبرزها هو سعي البعض عن الشهرة واقتحام مجالات الحياة ببضاعة مزجاة؛ فتجد أحدهم يحمل معه معلومات ضحلة في الثقافة والعلم؛ ثم يأتي بها إلى هذه السوق الرائجة ليعرضها كيفما يشاء!! «الكيتامين» أو «الكيتالار» كما يطلق عليه تجاريًا؛ دواءٌ يُستعمل في التخدير؛ أصبح استعماله قليلًا في أيامنا هذه، بسبب اكتشافِ أدويةِ تخديرٍ أكثر فائدة وأقل ضررًا، حيث يتميز «الكيتالار» بأنّه ذو مفعولٍ قصير؛ لمدةٍ لا تتجاوز الربع ساعة، وقد كان يُستعمل في العمليات الجراحية التي لا تتطلب وقتًا طويلًا، والتي لا تستلزم حصول ارتخاءٍ عضلي... ولكنّ المُشكلة العظمى في هذا العقار؛ أنّه يجعل المريض؛ يفقد السيطرة على عقله الباطن الموجود في التلافيف العميقة مِن الذهن والتفكير، والتي لا تجد لها سبيلًا إلى الظهور؛ بسبب الموانع الاجتماعية والعائلية، والتي تتعرّض للتثبيط الدائم؛ فتختفي في أعماق العقل، ولا تجد ما يُخرِجها؛ لأنّها مكبوتة حياءً وخشيةً من العواقب. كلّ واحدٍ منّا يختزن في دماغه وتفكيره كلماتٍ بذيئة، ذاتِ معانٍ مرفوضة اجتماعيًا وأدبيًا، وقد يَخْرجُ البعض منها في حالات الغضب الشديد؛ عندما يفقد أحدنا توازنه وانضباطه؛ فتنفلت منه بعض الكلمات النابية والقميئة؛ أمّا «الكيتالار» فيُطلقها دفعة واحدة؛ فما إنْ يبدأ المريض بالاستفاقة مِن مفعول الدواء؛ حتى يبدأ بالصراخ والشتم والسباب، وقد تخرج منه كلماتٍ تخدِش الحياء وتمسُّ العِرض والنسب، وقد سُجِّلت حالات لمريضاتٍ؛ استفقن من مفعول «الكيتالار»، وهنّ يصرخن بأعلى أصواتهن؛ يتهمن أقاربهنّ أو الطبيب المعالج بالتعرّض لهن والتحرّش بهن، وربما تصل الاتهامات إلى ما هو أشدّ وأنكى، لذلك تم استبدال الدواء بعقاقير أخرى؛ لا تترك هذه الآثار المخيفة. أمّا مواقع التواصل الاجتماعي؛ فلها نفس تأثيرٌ «الكيتالار»، وربما تتفوّق عليه، خاصة عند من يتخفّى وراء اسمٍ مستعار ووهمي؛ يختاره على مزاجه، وينتقيه بصورة لافتة ومُثيرة، ثم تجده يُنسِب لنفسه المحامِد والمكارم والمناقب؛ ثمّ يُطلق لعقله الباطن العنان؛ ليُفرِغ ما اختزن فيه؛ من ثقافة هزيلة وكلماتٍ ركيكة؛ تخجل اللغة العربيّة الأصيلة أنْ تُنسب لها!! أو يلجأ إلى كلمات البذاءة والفحش، التي تخدش الحياء، وقد قيل إنّ جدران الحمامات العامة، ما هي إلاّ دفاتر تكتب فيها الشعوب إرثها وأدبها المُخزّن في العقل الباطن؛ فجاءت مواقع التواصل الاجتماعي لتجعل المهمة أسهل؛ بدلًا من التخفيّ وراء باب حمامٍ ليرسم عليه المرءُ رسومًا فاحشة أو ليكتب كلماتٍ بذيئة. لو كان أبو العلاء المعريّ، الآن، حيًّا، لأعجزه الشعر عن توصيف كيتامين مواقع التواصل الاجتماعي، والذي أصبح خطرًا على اللغة العربية وعلى الآداب والأخلاق، وأصبح ساحة للمناكفة والسبّ والشتم واللعن، وأصبح ميدانًا للمُنظّرين والسفهاء وحديثي الأسنان، وأصبح فرصة ثمينة للفِتن والتحريض ونشر الشائعات وبث الأخبار المُشوّهة؛ كما أصبح أيضًا، مفسدة للعقول والقلوب، والتخاصم والجدال العقيم!!