اهتم العديد من علماء اللغة وفقه اللغة قديماً وحديثاً بمعاني الحروف في اللغة العربية، وتساءلوا عن المعنى المرتبط بكل حرف، وقد قيل قديماً: إذا كانت الأعداد هي من أسرار الأقوال، فإن الحروف هي من أسرار الآثار والأفعال، ولذلك انطلق ابن جني في الخصائص يبحث عن هذه العلاقة عبر قاعدته (تصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني) وسعى لاستخلاص معاني الحروف من معاني الألفاظ، وفي العصر الحديث كانت هناك جهود لتلمس معاني الحروف منها دراسة الدكتور صبحي صالح التي ذكر فيها أن لكل حرف صوته -صفة ومخرجاً، وأن له إيحاءه دلالة ومعنى وأنه معبر عن غرض وأن كل حرف يستقل ببيان معنى خاص ما دام يستقل بإحداث صوت معين وأن لكل حرف ظل وإشعاع، إذ كان لكل حرف صدى وإيقاع.. وقد جاء تناول صبحي صالح ضمن مباحث دراساته في فقه اللغة، وممن سعى لاستجلاء معاني الحروف حديثاً الدكتور حسن عباس في دراسة (خصائص الحروف العربية) معتمداً على الاستبطان أو الاستيحاء، وكذلك الباحث الدكتور إياد الحصني في (معاني الأحرف العربية) التي يذهب إلى أنه أتى بنظرية عربية تحدد معنى دقيقا لكل حرف من حروف العربية ومنها على سبيل المثال حرف الفاء الذي يعني الفراغ أو التفريغ المأخوذ من طريقة لفظه وتفريغ الهواء بعد الضم مدللاً على ذلك بحشد من الكلمات منها (حفرة، فتحة، فراغ، فضاء، فسحة، جوف، فجوة، فم، كهف ...) أسوق ما سبق من حديث توطئة للحديث عن كتاب (أكثر من ثمانية وعشرين) للدكتورة أروى خميس التي سطَّرت هذا الكتاب عن الحروف العربية بعيداً عن التأصيل والتنظير مستجيبة لحسها الإبداعي فحسب، وموضحة في مقدمتها أن عملها صادر عن (انطباعات شخصية جداً، لعب بالمعاني والأفكار والحكايات). كما تعبّر في مقدمتها عن استمتاعها بكتابة هذا الكتاب متسائلة فيما لو كانت حرفاً ترى ماذا كان سيكون صوتها أهو هوائي أم جوفي أم حلقي؟ وهي بهذه التساؤلات تعبّر عن إدراك لكنه عملها الإبداعي المنطلق من فلسفة اللغة وفقهها، لكنها تتحرَّر من كل قيد باستجابتها لتلقائيتها وانطباعيتها التي ترتوي من طول عملها في مجال اهتمامها الإبداعي المحبب إلى نفسها ألا وهو مجال أدب الأطفال التي برعت الكاتبة في كتابة قصص الأطفال فيه، لذلك نجد الكاتبة تصرح بهذا الحب ابتداءً عبر الإهداء الذي سطرته ممزوجاً بالحب (إلى الذي شاركني كلمات الحب من قبل أن تكتبها الحروف) وهو إهداء متسع ليشمل بالحب كل مذكر الأب - الأخ - الابن- الزوج - الأستاذ ... إلخ). ثم تواصل حديثها المضمخ بالحب في مقدمتها حتى إنها استطاعت (أنسنة) هذه الحروف وبثت فيها الحياة (أحياناً كنت أتخيل الحروف أصدقائي وجيراني نعيش معاً). ثم توضح مصدر الإثارة لهذه الحروف (أكثر ما يفتنني.. ما تثيره في نفسي من مشاعر وهي مجرد حروف ثم قدرتها على الالتصاق ثم صياغة كلمة.. أليس ذلك مدهشاً؟ لا بد أن للحروف روحاً مثلنا تماماً .. هي ليست ثمانية وعشرين حرفاً.. هي حتماً أكثر من ذلك) لذلك تنطلق الكاتبة لتحاور الحروف بعدما خلعت عليها من روحها وصنفتها إلى حروف مذكرة وأخرى مؤنثة لتعطي بعضها وصفاً وبعضها نبضاً وأخرى لوناً، وكل ذلك في لغة أدبية حشدت لكل حرف كلماته بلغة تنساب جمالاً وعمقاً وفلسفة تنبع من مخزون قرائي، واستفتحت لكل حرف ببيت مختار من الشعر العربي يمهد له ومنها الاستشهاد ببيت لنازك الملائكة - على سبيل المثال كتمهيد لحرف الثاء: ثم استلمنا وردة حمراء دافئة العبير أحبابنا بعثوا بها عبر البحار ولو أردنا استعراض نتف مما جاء في الكتاب لاحترنا في اختياراتنا لوفرة الجمال فيه مع كل حرف، ومنها حرف الغين (شيء من الدلال يتلبس من ينطقك،كيف لا وأنت حرف غنج ناعم يغمز لنا نحو الكلمات بكله ويقبل علينا بغيه ولا يعطينا ظهره.. ستكونين منسابة في شفاهنا كغناء، غواية في قلوبنا،كخطى الغجر... ستظللين كلماتنا كغيمة، وتلونين ظلالها بالغسق، فلا يحزنك لو كنت غريبة في بعض الأبجديات أو غثاء في بعض الكتب، أو غروباً في كل الأيام أو غباء في بعض الفصول) ولا يخفى ما حشدته الكاتبة من كلمات تشتمل على حرف الغين في مواضع مختلفة دون اعتساف للعبارات، ولو أردنا ضرب مثال للأنسنة ... لوجدناها تخاطب حرف الشين كشخص ماثل أمامها (أيها الحرف شديد اللهجة ، لا تأخذ الأمر على محمل شخصي، ولا تسكتني ب اششششش..فشواربك لن تخيفني). كما تخاطب حرف ( الحاء) وتلوّنه، وتأخذنا به ومعه إلى عمق المعنى (أصغ إلي أيها الحاء.. رغم كل ما فات ورغم أن صوتك يبدو كجرح في حلقي، ورغم أنك حار ولونك أحمر إلا أنني أحبك؛ فلولاك لما كان الحرف ولما كان الحبر ولما كانت الحكاية.. بل لما كانت الحقيقة!) وتؤنِّث السين والطاء والراء التي تخاطبها (أحياناً يحدث أن أسمع نبرة رثاء في صوتك فأربت على انحنائك ،وأشعر برجفة برد في أطرافك فآتي بأقلامي لأرقيك وأرى في مقلتيك نظرة رعب فأتمنى أن أحتضنك). ولا يخلو تناول الكاتبة لحروفها من طرافة الفكرة المسترسل في التفكير المتأمل كمساءلة حرف الطاء لابتلاعها الألف ووضعها على التاء لتكون طاء أو التعجب عند مخاطبة السين من السجن الذي شيدته الأبجدية في بطنها وهو ما يدعو للتأمل في سبب رسم الحرف ابتداءً! وقد تتوسل الكاتبة في الحديث عن حروفها بالقص كما حدث مع حرف (الدال) وقصة الدعسوقة (حشرة صغيرة) التي تختتمها ختاماً مؤلماً (... استمرت الدعسوقة في دربها، حيث وصلت إلى دكان أقمشة مهجور، رأت فيه خريطة مدينة ، أحدهم داسها بقدميه، علب أدوية سرق منها كل الدواء، دفتر صفحاته ممزقة وقديمة..كتب على إحداها:هنا أحد أحياء دمشق!) والكاتبة قدمت حروفها بترتيب عفوي لم يعتمد الأبجدية أو الترتيب الهجائي، وإنما جاء الترتيب عفو الخاطر ليعبر عن تناولها للحروف وفق ما يمليه عليها حسها الإبداعي لتقدم لنا مادة حفية بالقراءة من الكبار ومن الصغار على حد سواء؛ لتوفر الصياغة الأدبية والعمق الفلسفي للكبار، والطرافة وثراء المفردات وتنمية الحس الأدبي والمخيال الإبداعي للأطفال. وأخيراً.. فإن هذا الكتاب جديد في موضوعه وطريقة تناوله؛ إذ لم أطلع على مؤلف يحاكي فكرته الجميلة وكأني بالكاتبة عندما سطرته كانت تستحضر قول أبي العلاء المعري: وإني وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل فجاءت بعمل يغري متذوِّقي الأدب والمهتمين بالتربية اللغوية على حد سواء وهذه بعض نماذج منه: ف (فَإِنْ يَكُ فِيكُمْ بَعْلُ لَيْلَى فَإنَّنِي وَذِي الْعَرْشِ قَدْ قَبّلْتُ لَيْلَى ثَمَانِيَا قيس بنُ الملوّح في فيرونا كان هناك فارسٌ يمتطى فرساً، مضى الفارس نحو فتاة فاتنة تجلس بانتظاره على أعتاب الفجر، تلمحه الفتاة فتطير فراشةٌ ملونةٌ من قلبها، ويغني خلخال فضةٍ حول ساقها، ويرقص عطرٌ فوّاح حول عنقها.. تُمطر السماء عليهما بالفرح، تتلوّن كل النجوم بألوان الفواكه، يتحوّل الفضاء أمامهما إلى فردوس بهيج.. وفجأة... تلوح فكرة شريرة في الأفق، فيهربان بسرعة قبل أي فضيحة. كان ذلك مشهداً من فيلم... في فرنسا كان هناك زقاق خلفي، به فتى فقير عليه أن يطعم فريقاً من إخوته الجياع، كان الفتى فناناً يرسم على الجدران معنى الفقد وألم الفشل، كان فطناً ذكياً، كل فكرة في عقله تلد فكرة..ثم فكرة.. وفجأة.. قرأ الفتى كتاباً في الفلسفة، فحدثت فُرجة في روحه، وفتحٌ في عقله، وفوضى جميلة في رأسه.. كان ذلك مشهداً آخر من نفس الفيلم م مَا كُنْتُ أُؤْمِنُ بِالْعُيُونِ وَفِعْلِهَا حَتَّى دَهَتْنِي فِي الْهَوَى عَيْناَكِ عبدالله الفيصل هل نُغلق الأبواب بالمفاتيح؟ لنفتح الأبواب بالمغاليق إذن.. إن كانت الأمور هكذا فلنلعب بالمنطق، لنجعله غير مقبول ولا معقول.. لنضع كل الأشياء معاً ونصنع مزجاً لا يمتزج.. وممكناً غير ممكن، وميزاناً غير متّزن، لنفتح متحفاً لأنواع المزاح، ومعرضاً لكل مرآة كذابة، لنلبس المطر بدلاً عن الملابس، ونجرب الملح للتحلية ونضع السكّر في الملاحة.. لنجعل المثلث مستطيل الأضلاع..والملاك شيطاني الملامح.. ألا تبدو الحياة هكذا مغامرة مدهشة؟ هيا يا ميم.. لا تدّعي المثالية ولا تكوني محتالة، كلنا نعرف قصصك المؤلمة مع المدمنين..ونظرتك اللا مبالية للموت.. وماضيك الأسود مع المسجونين.. ومراكبك الغارقة في المحيطات.. افسحي لي مكاناً ودعينا نرحل نحو المستحيل، سأركب على يائك بين رسمك ورسمك.. لنذهب معاً ونقضي على المجاعات في كل المساحات، لنمنح الماء لكل عطشان في كل مدينة.. لنساعد الشباب لبلوغ المرام والشابات للوصول للمراد.. لنقنع المزن أن يمطر علينا.. لنلْقِ المرساة في عمق المعاني.. لندعو بالمغفرة لكل المذنبين.. وبزيارة مكة لكل المحرومين.. ص صَبْراً! لَعَلّ الذِي بِالبُعْدِ أَمْرَضَنِي بِالْقُرْبِ يَوْماً يُدَاوِينِي فَيَشْفِينِي ابن زيدون في ذلك الصباح، شعرتُ بالصّداع بسبب صرير صوتكِ الذي يشبه صراخ صبي صغير، وعندما تصمتين وتكفين عن الصّخب لا يتحسّن الوضع كثيراً، إذ إنك تتركينني في وسط بطنك وكأنك تلقيني في وسط صحراء ملأى بالصّخر والصّبار، أدري صعوبة شكلِك إلا أنني أعرف من أعطاك بطنه من الحروف، أنتِ من بدأ صراعاً كانت نهايته هذا الانتفاخ.. أنتِ حرف صعب يا صاد.. صعب جداً لدرجة أنني أفكر جدياً في صفعك.. لكنكِ وبمحض الصدفة أتيتني في الصباح التالي تطلبين الصفح.. منحتني صندوقاً سحرياً كعربون صداقة، فتحتُ الصندوق فتصاعدت منه نحو السماء صلواتٌ ودعواتٌ صادقة، وتطاولت منه شجرة صفصاف خضراء لها جدائل فاتنة يلعب تحتها عدد من الصبية الصغار، وجدتُ صولجاناً قديماً صدئاً يرقص به صعلوك، وفصل صيفٍ بسماء صافية وإجازة ممتعة، وجدتُ صقراً لا يقدر عليه صيّاد، وصوت يغني «يا ليل الصبّ متى غده» .. أتعرفين أجمل ما وجدته في ذلك الصندوق أيضاً يا صاد؟ الصدى.. الذي يحيي منا الصوت.. والصمت.. الذي يميت فينا الصوت..) ** **