هذا العدد من «ملف الأدب السعودي» يُسلط ثلاثة نقاد الضوء على جوانب وأسماء مهمة لها وجهات وبصمات خاصة في مشهدنا الإبداعي فجّت خلاله دربًا إلى المجرة في ثقافتنا السعودية. وعنون الناقد الأستاذ عبدالله السفر «القصيدة الجديدة في السعودية.. فيضُ المرجعيّات وهاجسُ التجريب», تحت هذا العنوان كشف أن الحرية هي عنوان القصيدة الجديدة في السعودية. قابل هذه الانفتاح الكبير والتوسّع في النشر وارتفاع مؤشّر الحرية، ازدياد في وتيرة الكتابة الإبداعية المتدفقة بشكل منقطع النظير لم يُسبق قبل. إذ برز شعراء متميزين لم تخبُ لمعة حروفهم ولم تفتر سخونة كلماتهم. فالتمع من يسرد في هواء الأسطورة ضمن منحة المخيّلة وفتوحاتها البهيّة. ومن يسرد مصحوبا بعبق المكان وذاكرته وشجنه, والتمع من يتأرّجُ بالسرد الشعري وحدَه مأخوذا باللقطة الحكائية يستخلص الشِّعر من شخصيات حارته. وفي هذا الجزء فيما تناولت الناقدة الدكتورة فايزة الحربي حضور الوطن في النص الشعري المعاصر والذي جاء معبرًا عن عاطفة الانتماء للأرض والهوية معتزًا بذكريات الماضي ورؤية الحاضر، كون الشعراء السعوديون عدوا الوطن بمثابة تعني لهم الوجود والكيان المقترن بإنسانية الشاعر في آماله وآلامه والتغني بأمجاده، وكان لزامًا أن يكون لهذا المعنى انعكاساته على النص الشعري عند كثير من الشعراء السعوديين فهو الملهم والساكن في الأعماق المتجذر في دواخل الذات.. وفي هذا الجزء الناقدة الدكتورة ميساء خواجا تشير إلى قفزات نوعية اقتصادية وثقافية ومعرفية في ظل هيمنة العولمة، هي ما جعلت عددا من الشعراء الشباب يشعر بالهوة المعرفية وبالعزلة والانفصال عن العالم المحيط به, تجلى ذلك في اختيارات جيل الشعراء الشباب في المملكة العربية السعودية الذين نشروا أعمالهم بعد عام 2000م, ما عزز الفردية في مواجهة النمط الجمعي, استطاعوا بنشرها التخلص من دور المثقف المسؤول القادر على التغيير. إضافة لأسباب أخرى كرست عزلة الروح عند بعضهم إيمانًا بفناء الحياة الأرضية, فعاش نوعا من الانفصال عنها, وهو ما جعل قصائدهم تعزز هذا الدور, وأن لا شيء جميل ولا شيء يستحق الحياة على الأرض، والقبح هو كل ما يمكن رؤيته فيها. في هذا العدد قراء الثقافية الكرام: تصحبنا النقادة الدكتورة ميساء خواجا, والدكتورة فايزة الحربي ويصحبنا الناقد الأستاذ عبدالله السفر, لوجهات من المشهد وأسماء لامعة أضاءته, علينا إمعان النظر في تجربتها الخلاقة, بما شكلته من نقوش متفردنة في مؤلفاتهم وتردد على أفهواهم من وسوم أقواس قزح. عبدالله السفر : «القصيدة الجديدة في السعودية.. فيضُ المرجعيّات وهاجسُ التجريب» باتت الحرية هي عنوان القصيدة الجديدة في السعودية مع انتشار المدونات والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي حيث الفضاء المفتوح الذي لا يخضع للرقيب؛ والمجال الكبير لتعدّد مرجعيّات الكتابة فتعدَّتْ الكتابَ الورقي إلى اللوحة الفنية والصورة الفوتوغرافية والموسيقى والسينما حتى إن كتابا شعريا لإبراهيم الحسين عَنوَنَه ب»على حافة لوحة في المنعطف الموسيقي» وكأنه فيضٌ من ال»تقاطعات» مع تلك المرجعيات أفضَتْ به إلى استدخالها في نصوصها وإعادة إنتاجها جماليا بخبرته الشخصية ومن مصهره الخاص وضعَ فيه ما رآه وما استمع إليه في ضوءٍ جديد. والأمر نفسه يقال عن الإنترنت واستخداماته بنواحيه المتعددة وتوظيفه جماليا في عناوين الكتب كما عند حسين المنجور «قبر إلكتروني لكائن افتراضي» وعبدالعزيز الحميد «استرجاع كلمة مرور» وأحمد العلي «يجلس عاريًا أمام سكايب», وفي بعض النصوص التي تمرّ بالقارئ عند (سلمان الجربوع وهدى ياسر وصبا طاهر ومحمد خضر وعبدالله ثابت وآخرين). أمام هذه الانفتاح الكبير وتوسّع أفق النشر وارتفاع مؤشّر الحرية، أخذَت وتيرة الكتابة الإبداعية في تزايد وبشكل منقطع النظير وليس له سابقة. ثمّة تدفّق وسيولة وانهمار وحضور شبه يومي في «الفيسبوك وتويتر». هذه الكتابة -لها ما لها وعليها ما عليها- التي ودّعَتْ «عُسْرَ الكتابة» وصعوبتها وثابتَ «قلع الضرس أهون» بما يشبه الضربة السحرية. ولنا شاهد في شعراء متميزين لم تخبُ لمعة حروفهم ولم تفتر سخونة كلماتهم ك: زياد السالم في «تويتر» وحمد الفقيه وأحمد الملا في «الفيسبوك». هذا العرس الإبداعي، إن ساغَ لي التعبير، يأتي في مروحة ملوّنة وفي حسٍّ تجريبي: في مستوى الشكل وفي مستوى الموضوعات والمضامين. ذلك الفرح وتلك الحرية يُمارسان بجرأة لا تقف عند «خربطة» أفق الانتظار للقصيدة المعتادة السطرية. لا تقف عند هذا. إنها تذهب إلى ترقيق الحدود وتشفيفها بين الأجناس الأدبية. أضحينا نقرأ نصوصا تنوِّعُ بين الكتابة السطرية (أبرار سعيد: «ليس لِيَدي أن تتكلّم». صالح زمانان: «أعطال الظهيرة»،...) والجمع بين السطرية والكتابة الكتلة (محمد الحرز: «غيابك ترك دراجته الهوائية على الباب». منال العويبيل: «العلاج بالكتابة»،...)؛ النص الكتلة (إبراهيم الحسين: «يسقط الآباء حجرا حجرا». علي عاشور: «من العتمة إلى الجياع». وما كتبه ويكتبه زياد السالم خلال الثلاث السنوات الأخيرة في تويتر،...)؛ الاستغناء عن العناوين تماما (محمد الحميد: بحجة الكوميديا) إلى تعويضها بأرقام فقط (عبدالله العقيبي: «تبا كخطأ مقصود في ترجمة الأفلام». محمد السعدي: «جغرافيا شخصية»)؛ والتجريب في بنية النص نفسه كما هو الحال في شطرٍ من نصوص غسان الخنيزي وماجد الثبيتي.. وإذا ما تحدّثنا عن تذويب الحدود بين الأجناس -وبتعبير آخر التبادل والاقتراض- نلحظ الاقتراب الكبير من فن السرد الذي يستضيف معه وفي تزاوج كبير أحياناً رائحة المكان وذاكرته، وتحضر هنا قائمة ليست قصيرة تمتد من التسعينيين وحتى هذه اللحظة الشعرية في كتبٍ قرأتها أو مخطوطاتٍ لم تأخذ طريقها إلى النشر. ثمة من يسرد في هواء الأسطورة وضمن منحة المخيّلة وفتوحاتها البهيّة (زياد السالم: «المضاف إلى نفسه» و»حصة آدم...». سعود السويداء: «التخلّص من جثة». وبعض نصوص عبدالله حمدان الناصر في كتابه الذي سيصدر قريبا: «خيزران ميت يشرب الماء» ومعظمها يجده المتابع في مدونته: أثر الزعفران). وهناك من يسرد مصحوبا بعبق المكان وذاكرته وشجنه (غسان الخنيزي: «أوهام صغيرة أو التي تراود الموهوم في الحمى». عيد الخميسي: «البوادي». مسفر الغامدي: «شجرة يسقيها الشاي». علي سباع: «نزهة الهارب ومشيئة الغريب»). ونلمس ونشاهد عند أحمد الملا السرد بمعناه المشهدي بعينٍ سينمائية معكوسا على خارطة أعماله الشعرية جميعها. وثمة من يُحدِث انتقالة في تاريخه الكتابي. يقطع مع هذا التاريخ، ويدخل في مناخٍ كتابي يتأرّجُ بالسرد الشعري وحدَه مأخوذا باللقطة الحكائية، وبمذاقٍ شعبيّ صرف يعرف كيف يستخلص الشّعر من الحارة ومن شخصياتها على النحو الذي يمضي إليه عبدالرحمن الشهري في «صعود متأخر» (2017) و»الكتابة على جهاز آيفون» (2018). وثمة سرد متعدّد الحقول الجمالية كصنيع محمد حبيبي في تجاربه المرئية («غواية المكان» و»حدقة تسرد». وفي بعض نصوص كتابه: «جالسا مع وحدك»). ومن باب التداعي مع عنوان «حبيبي» الذي يفيض بالعزلة والوحدة، نلمس تجاوبا ممتدّا مع هذه الموضوعة المشبعة بالقلق والسأم واليأس والضجر عند مجموعة من الشعراء مثل: علي العمري، حمد الفقيه، أحمد كتوعة.. ويتجذّر القلق عند بعضهم وصولاً إلى هاجس الموت (عبدالله المحسن في تجربته: «يترجّل عن ظهره كخطأ كوني» وما تلاها من نصوص).. وعلى خصوصية تنطوي عليه تجربة كلّ منهم؛ فالقلق الوجودي بارز عن العمري وكتوعة. واليأس الضارب بجذوره الاجتماعية والسياسية عند حمد الفقيه والذي يناوره مرة بالسخرية ومرة بالعبثية وفي جميع الأحوال بنبرة التمرد والاحتجاج، ويشترك علي العمري معه في إنتاج هذه النبرة. وفي مقابل منحى النص الشعري الذي يتنفّس السرد، يتموضع نص آخر له حضورٌ ضارب بخاصّة في تويتر، ويتمثّل في تلك الالتماعات البرقية والشرارات الخاطفة في هيئة شذرة.. أو توقيعة لها مذاق الحكمة.. أو كتابة مقطعية مكثّفة وكثيرا ما لا يستوعبها النص التويتري، نقرأُها في حسابات: زياد السالم، وهيفاء العيد، وعلي عكور، وماجد الثبيتي، وضيف فهد،.. وينبغي أن نسجّل هنا التفاوت في الاستيعاب الجمالي والمعرفي للشذرة، وبالتالي إنتاجها إبداعيا سيّالاً متدفّقا مشعّاً أو مجرّد التقاطة طارفة تجفّ مع الزمن ويذبل تأثيرها. ولعلّ وجود هذا اللون في القصيدة الجديدة السعودية يعود -في حدود ما قرأته- إلى «إشارات.. إبراهيم الحسين» المكتوبة في العام 1408 ه- 1988 «منشورة في مجلة مواقف..», كما أن الشاعر أحمد الملا أدرج بضع شذرات في كتابة الأول «ظلّ يتقصّف» ومنها هذه الشذرة التي أستعيدها من الذاكرة: «أوقفني وقال: إنّ قدماً لا تنتقي خطوها، لا يحقّ لها أن تفاخر بالطريق». وعَوداُ إلى ما يُكتب خلال هذه العشرية، فقد خرجت مجموعة من الكتب القائمة على كتابة الشذرة (ومعها الكتابة المقطعية) أو تحوي في أجزاء منها على الشذرة أو التوقيعة (زياد السالم: «حصة آدم...»/ 2009. محمد الحرز: «أحمل مسدسي وأتبعُ الليل»/2015. إبراهيم زولي: «شجر هارب في الخرائط»/ 2014. علي عاشور: «عين في إصبع»/ 2013. حسين آل دهيم: «أوبة الهرطيق/ 2014. ماجد الثبيتي: «الإشارة عمداً إلى الاتجاه الخطأ»/ 2018،...). ولا بدّ لي من أن أشير إلى أن زياد السالم من المتمكّنين وبتفرّد في الكتابة المقطعية التي تطفر منها الشذرات مثل جواهر لا يخطئها الذوق؛ مكتوبة ببصيرة مجبولة من الفكر والتأمل ومُشرَبة بكثيرٍ من الشعر. .. ومن النوافذ اللافتة في مشهدنا الشعري نافذة القيد والتململ منه تطلّ منها أسماء مثل: أبرار سعيد، هدى الدغفق، صبا طاهر، هدى ياسر، فاطمة المحسن، نور البواردي... ونافذة اللعب واللا اكتراث والسخرية يشاغب منها مثل عبدالله العثمان وعبدالله العقيبي وماجد الثبيتي وماجد العتيبي وحمد الفقيه في بعض نصوصه.. ونافذة المكان والأشخاص وهما في ضباب الغياب معاً أو في معترك المدينة يشغلها مثل إبراهيم الحسين, غسان الخنيزي، أحمد الملا، علي العمري، سلمان الجربوع، محمد خضر. .. وبعد، كانت تلك إطلالة على القصيدة الجديدة المكتوبة في أفق «قصيدة النثر»، في مَشاهدَ تحتاج عناوينُها إلى تدقيقٍ وتفصيلٍ على نحوٍ أشمل يحيط بها.. وأعتذرُ -مقدّماً- إلى تجارب وأسماء، لم تَرِد الإشارة إليها، عن «غدْر السهو» ومباغتاته. د. ميساء خواجا: العبثية واللاجدوى في نماذج من شعر الشباب في المملكة العربية السعودية تعيش المجتمعات الحديثة قفزات نوعية على مستويات عدة اقتصادية وثقافية ومعرفية في ظل هيمنة العولمة وسيطرة التكنولوجيا، الأمر الذي جعل عددا من الشباب يشعر بهوة معرفية وبالعزلة والانفصال عن العالم المحيط به. ويمكن أن تظهر تلك الهوة المعرفية والثقافية والفنية في اختيارات جيل الشعراء الشباب في المملكة العربية السعودية الذين نشروا أعمالهم بعد عام 2000م، ولعل من أبرزها توجههم صوب قصيدة النثر، أو الكتابة تحت مسمى «نص»، وهي أشكال تتعارض بشكل أساسي مع الذاكرة الثقافية ونمط القصيدة العربية كما هو معروف. وهي إذ تتعارض مع تلك القوانين الشكلية التي تحددها القصيدة العربية فإنها -في الوقت نفسه- تعزز لمزيد من الفردية في مواجهة النمط الجمعي إن صح التعبير. والناظر في عدد من إنتاج هؤلاء الشباب يمكن أن يجد فيه سمات مشتركة يجمعها إطار عام يهيمن عليه إنكار الهوية والإحساس بالعزلة والعدمية، حيث تبدو نصوصهم وكأنها خارج الزمان والمكان، ينطوون فيها على ذواتهم وقد تخلصوا فيها من دور المثقف المسؤول القادر على التغيير، واختفت فيها مركزية الإنسان وتعاليه، لتصير الذات وحيدة في مواجهة الآخر، وموجودا ضمن الموجودات الأخرى، لا قدرة لها على التغيير، ولا مصير لها غير الإحساس بالفراغ واللاجدوى. حين يؤمن الإنسان بفناء الحياة الأرضية فإنه قد يعيش نوعا من الانفصال عنها، هذا الانفصال هو الذي سيؤدي في النهاية إلى نوع من الإحساس باحتقار الحياة الأرضية، وبأنه ليس هناك ما يمكن استخلاصه من الحياة على هذه الأرض، وجميع النشاطات المعتادة للبشر الفانين لها غاية واحدة هي مواراة الحقيقة المرعبة: العزلة والقابلية للفناء وتسرب الزمن وتحلل الجسد. يبنى عدد من نصوص الشعراء الشباب على هذه الرؤية وبأنه لا شيء جميل ولا شيء يستحق الحياة على الأرض، والقبح هو كل ما يمكن رؤيته فيها. وهو ما يمكن أن نجده عند عدد من الشعراء مثل فيصل الرحيل وفيصل الشهري وماجد الثبيتي وغيرهم. هكذا يقود احتقار الحياة إلى نوع من الانفصال عن الجماعة، والناظر في نصوص عدد من الشعراء الشباب يرى أن العزلة هي اختيارهم الأول، على تفاوت في الدرجة بين تجربة شعرية وأخرى. ومن هنا يكاد يختفي الآخر من نصوصهم، كما يختفي الإحساس بالمجتمع وقضاياه، لا حضور للسياسة ولا حضور للانتماء، وحدها الذات تقف وحيدة في مواجهة الفراغ وغياب الدور الفاعل الإيجابي. تقول رقية الفريد: «أنا وحدي ولا شيء يجدي / أنا الفراغ برمته». أما خالد العتيبي فقد اختار الانكفاء على ذاته والرضا بمصيره، فما الحياة إلا لقاءات بالصدفة، والإنسان صغير وهامشي أمام الزمن والغيب. قد يأتي اختيار العزلة نتيجة الإحساس بالعبث وقبح الحياة واحتقار من فيها، ومن ثم يتحول الإحساس بالحياة إلى إحساس بالقرف والرفض وبهامشية الإنسان في الكون. حين تفقد الحياة المعنى ويفقد الإنسان الإحساس بقيمتها يصير العدم عمق الأشياء وخلفيتها، ويكمن وراء كل ما يمكن أن يكون ذا معنى. يصير مرور الزمن أمرا فظيعا، والآخرون عبء لا بد من التخلص منه. وحين يختار الإنسان عزلته فإنه يشعر بعبثية الفعل والقدرة على المشاركة، فالآخرون لا يستحقون الانتباه، أو هم مصدر الألم والشقاء في الحياة. والوعي بهذه الحقائق يزيد من إحساس الذات بعزلتها وهامشيتها. هو العبث واللايقين والفوضى التي تحكم الحياة. يقول أحمد القيسي: «ثم ها أنت ذات يأس../ تتوج العشوائية عرش المضيء من عمرك/ فتستسلم لخطواتها الفوضوية/ وهي تسكبك برفق إلى الهاوية..». ويمكن ملاحظة أن عددا من النصوص قد اختار أصحابها الانسحاب إلى ذواتهم، فلا آخر ولا مشاركة ولا حياة، وإن ظهر الآخر فإنه يكون نقيضا ومعاديا في الأغلب. لقد اختفى صوت المجتمع ليحل محله صوت الذات التي تدين الحياة والمجتمع، وتؤمن بكذبة التواصل مع البشر، بل إنها قد تصل إلى تبرير الكذب على الآخرين وخداعهم. نظرا لأن كل أفعال الإنسان عبثية، وأن كل آماله محكومة بالفشل مادام محكوما بموته، فإنه قد يكون من الأجدر الانتحار، أو اللجوء إلى الكتابة كحل أخير. والكتابة عن الموت ثيمة واضحة ومركزية في العديد من نصوص الشعراء الشباب في السعودية ومن هنا تكثر النصوص التي تتحدث مباشرة عنه، وتكرر في الوقت نفسه ألفاظا تحيل إليه كالغياب والعدم والنهايات والسقوط والمقبرة ونحوها، بحيث تبدو النصوص مغلفة بالسوداوية وفقد اليقين في أي شيء عدا الموت، ويبدو الفرد منزوعا عما حوله في مواجهة مصيره، ليغمره الشعور بالعبثية واللاجدوى. يقول محمد عبدالله علوان: «وكأنني في حي شديد الدكون والغرابة/ أملك كونا (مليء) بالخراب والموت المستوطن في كل شبر منه/ وأسير وحدي عاريا بين الجثث/ حاملا على ظهري عالما من الكتب والفوضى والمندسين. لقد برزت ملامح العدمية في نصوص عدد كبير من الشعراء الشباب في السعودية، غير أن ما تجدر الإشارة إليه هو أنها لا تعني العدمية الدينية بشكل مطلق بقدر ما تعني الإحساس بغياب المعنى وعبث الوجود. كما تجدر الإشارة أيضا إلى أن الإحساس بالعدمية والتعبير عنها قد جاء متفاوتا بين شاعر وآخر، ففي بعض الحالات يأتي الإحساس بالعدمية والعزلة عبر نصوص محدودة في المجموعة، وقد تكون مبررة بقسوة الحياة والمجتمع والحروب التي يخوضها العالم كما هو الأمر عند فيصل الرحيل وطارق الصميلي وخالد العتيبي ورقية الفريد وغيرهم. لكن وجود تلك النصوص في مجموعاتهم الشعرية يؤكد الظاهرة ولا ينفيها، إذ يؤكد حالة القلق والعزلة التي يعيشها هذا الجيل، كما يؤكد إحساسه بالعزلة والاستلاب. وفي حالات أخرى تبدو النصوص مغرقة في السوداوية والعدمية معبرة عن إحساس حاد بالعبثية واللاجدوى وفقد اليقين كما هو الأمر عند سلمان الجربوع ومحمد عبدالله علوان وفيصل الشهري وماجد الثبيتي وعبدالله المحسن وسلمان الجربوع وغيرهم. وغلبة هذا الأمر تؤكد أن الإحساس بالعدمية ليس ظاهرة عابرة عند عدد كبير من الشعراء الشباب في السعودية، وأنه يستجيب في كثير لنصوص العدمية عند أساتذتها وفلاسفتها في الغرب كما هي عند شوبنهاور ونيتشه وإميل سيوران وصمويل بيكيت وغيرهم. كشفت قراءة عدد من المجموعات الشعرية للشعراء الشباب في السعودية عن غياب الصوت الإنساني الجمعي، وتراجعه إلى خلفية المشهد الشعري، مع تراجع دور المثقف الفاعل والإيمان بقدرة الإنسان على التغيير. لقد بدت النصوص وكأن أصحابها لا ينتمون إلى مكان أو زمان محددين، هي ذات تسبح في فضاء مطلق، تنكفئ فيه على نفسها، ولا تعيش لغير عالمها الفردي الخالي من التواصل أو حتى من القدرة عليه. اختارت عزلتها وأعلنت عن رفض الحياة الأرضية واحتقارها، فكل ما فيها سلبي وعبثي. من هنا برز في الكثير من النصوص ميل حاد إلى اختيار العزلة وإقصاء الآخر، وصاحب ذلك إحساس بالقرف وبالتقزم والهامشية وأن الإنسان ليس سوى نقطة صغيرة في هذا الكون الكبير، كما صاحبه إحساس بعبثية الفعل وغياب لأي دور لإيجابي أو قدرة على التفاعل مع المحيط. ويلاحظ أن ثيمة «الخطيئة» قد تكررت في عدد من النصوص، والخطيئة هي وجود الإنسان في هذا العالم، وهو ما يؤمن به العدميون الذين يرون أن كون الإنسان حيا هو أمر لا يطاق في حد ذاته، ومن ثم فإن الإنسان لا ينبغي أن يسهم في استمرار هذه الخطيئة وتكرارها. وهذا ما عبرت عنه عدد من النصوص التي استجابت لهذه الرؤى فغابت المرأة وغابت فكرة الحب، فالعدميون يرون أن الحب حماقة دنيئة وأن النساء يتحملن ذنب التناسل، ولا خير للمرء إلا أن يكون ميتا. تمثلت النصوص العالم على أنه سجن ومقبرة وألا جدوى من الحياة فبرزت ثيمة الموت التي ترتبط تماما بعبثية الفعل وعبثية الحياة، وهيمنت المفردات الدالة على الموت وبدا العالم وكأنه موت أزلي يقبع في قبضة الزمن المجهول، والإنسان عاجز إلا عن تقبل موته ومصيره، ومن هنا فالأولى أن يختار موته فيختار الانتحار أو الكتابة للنجاة من فخ الحياة. هكذا اختار الشعراء الشباب الكتابة، الكتابة عن وعي الوجود وأزمة المصير وأن الإنسان محكوم بالفناء. حينها تتساوى الحياة والموت ويصبح العدم هو الحقيقة الوحيدة والاختيار الوحيد. د . فايزة الحربي : الشعر السعودي المعاصر وتأصيل هوية الانتماء الوطني يأتي حضور الوطن في النص الشعري المعاصر معبراً عن عاطفة الانتماء للأرض والهوية، ورمزاً لذكريات الماضي ورؤية الحاضر، فالوطن يعني الوجود والكيان المقترن بإنسانية الشاعر في آماله وآلامه والتغني بأمجاده، ومن ثمّ لابد أن يكون لهذا المعنى انعكاساته على النص الشعري عند كثير من الشعراء السعوديين بشكل واضح وجلي وقد تجل ى وعي الشعراء السعوديين في عشقهم للوطن في عدة صور فاعلة للحب، فهو الملهم والساكن في الأعماق المتجذر في دواخل الذات، فقصيدة (عبور القفار فرادى) لثريا العريض يتجلى التوحد بين الوطن والشاعرة الذي يسير معها وكأنهما جسد واحد، وفقدان أحدهما يعني فقدان للآخر، فربطت اسمها باسمه، شعوراً بالانتماء نحوه، فصاحب قولها الشعري الحلم بالتغيير لمستقبل الوطن، كونها تمثل وعياً مستقلاً، قادرة على أداء دورها المشارك في البناء، ولكنها في النهاية رضخت للواقع لا للحلم واستجابت لنداءات الواجب الذي امتد نحو أفق أرحب: قلت: أبحثُ عن وطني يؤرِّقني هاجسٌ أنّ اسمي أنا خالدٌ في ذُراه ويسكنني.. وطنٌ لا أراه ربما امتدَّ فيّ هجيراً.. ظلالاً.. بشطآنه ومداه وحين تروغ صباحاته ومساءاته بأزمنةِ الصامتين يبقى بعينَيَّ وهجُ ضحاه من جهة أخرى كشف النص الشعري السعودي المعاصر أن الشاعر له دور كبير في تأصيل الهوية، كشاهد على معايشته للواقع المعاش، تلك المواقف التي تمثلها في تناوله موضوع الإرهاب الفكري وقضايا الوطن العربي، أو التطلع لتحقيق المثل العليا في مجتمعه. فقصيدة (الأشجّ) للقصيبي تمثل معانيها المواطنة الحقة والعمل لأجل تحقيق العدالة في شتى المجالات الوظيفية، إذ استبطن أعماق الشخصية المستدعاة/ عمر بن عبدالعزيز؛ ليظهر رؤيته واستشرافه للمستقبل وذلك بذوبان الحاجز الزمني، واتحاد الشخصيتين الراوي بالمؤلف الحقيقي، عند تبئير الحدث، وإبداء الإمام/ الراوي وجهة نظره بأنّ الأمانة والإخلاص على عاتق كل مسؤول مهما كان دوره الوظيفي. كما كانت قضية الإرهاب الفكري المنتزعة من محيط الشاعر وبيئته، ملهمة له لرسم أحداثه التاريخية، فقصيدة (يا ريم) للشاعر غازي القصيبي حكت حدثاً تاريخياً مهماً ليس ببعيد حينما استبيح بيت الله الحرام في عام 1400ه من قبل بعض المارقين.وقد توجه الراوي بخطابه الشعري إلى «ريم»، لتمثّل له جميع المتلقين للخبر: «إلى ريم العصيمي التي استشهد أبوها أثناء تطهير الحرم» ليستهل نصه بالنداء والمداعبة لهذه الطفلة «يا ريم/يا أحلى ظبي في البيداء»، لتبدو المفارقة واضحة بين الاستهلال بجمال الطفولة وبراءتها، في مقابل الوحشية والرعب.. بتكرار جملته الشعرية، بذكر «غيلان المسجد» وهذا التركيب بإضافة الغيلان للمسجد فيه شيء من الغرابة لا تتوافق مع بيوت الله، لما لها من القدسية والجلال، لاسيما أن المساجد لا يبتغى الطريق إليها إلا المؤمنون العابدون الطالبون رحمة الله وغفرانه فما بالك بالمسجد الحرام؟. فالأصل أن «حمائم المسجد» هي الصورة الأصلية المرتبطة بالمسجد ولكنها في ذلك اليوم الذي روعت حمائمه فبرحت أماكنها مجبرة، لتحل فيه الغيلان الذين «دخلوا في جنح الليل»، فالقتل هو الحدث الرئيس، وهو الحدث الأكبر، باقتحام أطهر بقعة على وجه الأرض ولكن «الغيلان» لم يكتفوا بقتل أبيها، بل قتلوا كل ما هو طهر ورمز مقدس «الماء النابع من زمزم.. الحجاج.. وسرب حمامات». ومع حادثة الاغتيال تتجلى ثنائية «الموت والحياة»، فوالد «ريم» حقق بموته -وهو أحد رجال الأمن الأشاوس- الانتصار ضد هؤلاء الوحوش، فلولا نضاله ودفاعه عن المسجد الحرام لقتل كل رمز للأمن والسلام والأمل بحياة أفضل، ويستمد الشاعر حقول معانيه من عالم الطفولة ليجسد من معاني التضحية ما يكون فيه عزاءً وتخفيفاً لمصاب الفتاة الجلل: لكنْ يا ريمْ بابا غلب الغيلانْ لو لم يغلبهم بابا كانوا سرقوا كور الأطفال.. وقصّوا خُصلَ الطفلاتْ كانوا افترسوا المريولاتْ قفلوا أبواب المدرسة.. وداسوا كتب المحفوظاتْ كانوا اقتنصوا فرح الأشياء ولفّوا الدنيا بعباءات الخوف السوداء كما امتلك النبل شعراءنا لأنهم خرجوا بكتاباتهم الشعرية من هم القطر والحيز الصغير إلى قضايا الوطن العربي الأكبر، وخاصة بعدما شاهدت الشعوب العربية مسرحية الهزيمة التي فرضتها إسرائيل على مسرح الأحداث، فكانت مشاهدها باكية ومؤلمة اهتزت لها الذات العربية في كل أرجاء الوطن العربي، ف(حزيران) أحدثت هزة في نفوس الشعراء، فكل منهم كتب عنها حسب رؤيته، فاقتربت معانيهم على رسم معاناة الذات المنكسرة بسبب الهزيمة، واختناقات الكلمة التي غُصت بنار اللوعة على الوطن السليب، ف(أنشودة حزيران) لحسن القرشي، تبكي ما بعد حزيران وتداعياته، حيث توالى أكثر من حزيران واحد على الأمة: حزيران عادْ حزيران قد عاد عَبْر انسحاقِ المُنى في دروب التَّفاهات