لطالما كان هناك خيط رفيع جدًا بين الرأي الفلسفي الجريء، وبين الاندفاع الصبياني الذي يلجأ إليه الفلاسفة الجدد أو فلنقل (مدعي الفلسفة) عند إطلاق آرائهم الطائشة التي تفتقر غالبًا إلى أبسط حيثيات المنطق الحكيم ومكونات البُعد الفلسفي، كما ينقصها الدقة والتصور والمفهوم المعرفي، إذ إنك حين تحاول تفكيك نظرية ما -وأعرف أن تسميتها بالنظرية ليس بالمصطلح الدقيق- فلن تجد شيئًا آخر في بنيانها فيما عدا اللا شيء. فهي مجرد أفكار أولية، وآراء اعتباطية تقوم على أساس ظاهر وهش من فراغ المعنى. إنها كذلك تعسفية وليست مجهزة بأدوات المفهومية. حين قال نيتشة في تفسيره للوجود: «إن الوجود ليس أكثر من محض بخار ومغالطة» علق هايدغر قائلاً حول هذا الطرح: «ما هو إلا ملاحظة عشوائية طائشة قذف بها في هيجان الإعداد لعمله الرئيس والمركزي الذي لم يتم إنجازه قط، فملاحظته تنقصها المشروعية بشكلٍ موجع». وجميعنا نعرف جيدًا أي إسهامات أسداها نيتشة للفلسفة عمومًا، غير أن ملاحظته تلك - بما تحمله من مجازفة- شكلّت محض إشكال لدى هايدغر مما دعاه لانتقاده بقسوة، فكيف بما يُحدثه بعض فلاسفة اليوم من آراء وشطحات خارجة عن الموضوعية والنسق الفلسفي بتراكيبه (التفكيرية)، بطريقة أقل ما يقال عنها أنها نزق مُرَاهَقَة قرائية أدت إلى تجرؤ على الفلسفة. وحتى لا أفهم بطريقة خاطئة، فإني لا أدعو هنا إلى التنحي عن الفلسفة ونسيانها، لأني أؤمن كثيرًا بما جاء في كتاب (مدخل إلى الميتافيزيقيا) لمارتن هايدغر، حيث قال: «إن كل الأفكار العلمية بلا استثناء هي فقط مشتقة من التفكير الفلسفي، حيث تمضي قدمًا من بعد لتتجمد في صيغها العلمية، فالفلسفة لم تنبثق مطلقًا من العلم، لا، أن الفلسفة بالأحرى تسبق العلم في المرتبة، وليس فقط منطقيًا في التصنيف الذي يمثل نظام العلوم. والفلسفة تقف بشكلٍ مختلف تمامًا عن العلم من حيث حقل البحث ونظام المقاربة للتعاطي مع الأشياء». ولكني أدعو بجديةٍ تامة إلى الاقتراب من حقيقة الإشكالية في تعامل الفلاسفة الجدد مع ذلك الركام المعلوماتي المبهم في عقولهم، وإطلاقهم للآراء التنظيرية على عواهنها دون إقامة أدنى اعتبار للعقل المستقبل وأسئلته المستفسرة، وكأن الأمر ليس إلا لمجرد لفت الانتباه، بصرخة ستظل أسبابها غامضة إلى الأبد. وإننا في واقعنا العربي نمتلك نمطًا مألوفًا، وتاريخًا عظيمًا من تلك الصرخات التي تشق طبلة أذن الوجود دون حاجة بينة، ثم تعود للاندثار مجددًا. أي نعم. كُنا كما قال (القصيمي) ظاهرة صوتية، وها نحن اليوم بلا فخر نشق طريقنا، لنكون ظاهرة للخواء الفلسفي. بضع شذرات سفسطائية، نمزجها بسيريالية بدائية، وهكذا يخرج فيلسوف جديد! ** ** - عادل الدوسري [email protected]