لجأ العديد من المخططين العمرانيين إلى أعمدة الصحافة لإبراز واقع ممارسة التخطيط والتصميم العمراني، ومدى انعكاساته على المدن السعودية ووظائفها العمرانية، مطالبين بتمكين مهنة التخطيط والتصميم العمراني، ومنحها الاعتبار، ومزيدًا من المساحة، كأداة أساسية في عملية تنمية المدن وتطويرها، وتحسين البيئة العمرانية لتجسيد مبدأ جودة الحياة، وأنسنة المدينة. ولا يشكل وضع التخطيط العمراني في المملكة حالة استثنائية، بل نجد هذا الوضع تكرر في أمم قبلنا كأستراليا مثلاً؛ فقد شُغلت جمعية المخططين الملكية الأسترالية RAPI بالهاجس نفسه منذ تأسيسها. واحتفاء بخمسينية تأسيسها عملت الجمعية على تقصي عوامل نجاح التخطيط العمراني وخطواته من خلال البحث عن إجابة وافية للسؤال المحوري الآتي: كيف حصل التخطيط العمراني على الاعتبار والتقدير بأستراليا؟ وقد حصرت الجمعية الإجابة عن هذا السؤال الذي يؤرق أيضًا نظراءهم في السعودية في خمسة مرتكزات رئيسية، تراها كفيلة بمنح الاعتبار للتخطيط العمراني، هي: (1) البناء المؤسسي الفعال. (2) بناء الكفاءات البشرية وتدريبها. (3) المخططات العمرانية المتكاملة planning schemes ذات الصفة القانونية للتطوير الموجه والمتحكم فيه بسياسات عمرانية واستعمالات أراضٍ واستخدامات واضحة كأداة لها. (4) التطوير العقاري المتكامل لمشاريع نوعية. (5) تقليص المركزية على المستوى الوطني والإقليمي، وتفويض الأمانات والبلديات على المستوى المحلي بالصلاحيات المطلوبة لإعداد المخططات العمرانية، واعتماد التطويرية منها، وتنمية المدن، وتوجيهها ضمن المخطط العام. وقد نتج من هذا الأسلوب القائم على هذه المرتكزات «بيئة تخطيطية» متميزة في أستراليا، قلَّ نظيرها على المستوى العالمي، يتولى فيها التخطيط العمراني إعداد السياسات العمرانية، وصياغة التشريعات المناسبة لضبط عملية التخطيط، والتحكم في أعمال التطوير وتنظيمها. مع نهاية الأربعينيات الميلادية ظهرت بدايات التعلم في مجال التخطيط العمراني في المدن الأسترالية، وتوظيفه للخروج من عنق الزجاجة: النمط التقليدي تقسيمات الأراضي؛ لذلك اليوم تعتبر «مدرسة التخطيط العمراني الأسترالية» مدرسة هجينة؛ جمعت في توليفتها ممارسة المدرسة الإنجليزية إلى طرائق المدرسة الأمريكية؛ لتشكل منها ضفيرة واحدة متكاملة بنكهة أسترالية خالصة، تركز على التخطيط الاستراتيجي للتنمية، والنظرة الشمولية العمرانية، وتحقيق الأهداف التنموية في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية. والحديث يطول للحديث عن هذه المدرسة ومميزاتها. ختامًا، ما يمكن استخلاصه من التجربة الأسترالية هو أن البناء المؤسسي الفعال واللامركزي المرتكز الرئيس لإعطاء المخططين والمصممين العمرانيين المساحة السانحة لممارسة التخصص. كذلك، أهمية تمكين الكفاءات المتخصصة بعد تخرجها من أقسام تخطيط المدن، ورعايتها، وإجازتها، وتدريبها على غرار النموذج الأسترالي: هيئة مستقلة للمخططين العمرانيين. كما تملي التجربة الأسترالية ضرورة تعزيز قوة ردعية وقانونية للتخطيط العمراني، تفرض قراراته وتوجيهاته، وتلزم باحترام الوثائق والمخططات العمرانية، مؤكدة صفتها القانونية، وأنها حريصة على عدم التعدي عليها أو تعديلها بدون إشراك جميع أطراف العلاقة حفاظًا على حق المستثمر والساكن، واحترام استعمالات الأراضي والأنشطة المنصوص عليها بالضوابط والاشتراطات العمرانية والطاقة الاستيعابية للخدمات والمرافق. ومن أبرز الدروس المستقاة من هذه التجربة هو تبني التطوير العقاري المتكامل لأحياء مكتملة التخطيط والتنفيذ، ومتجانسة مع «المخطط العام للمدن» الذي بدوره يوجِّه التنمية العمرانية ويضبطها بدلاً من مجرد التعايش مع «التنمية السريعة والاستعجالية» و»احتواء النمو العمراني والسكاني».