يبقى ما يجري داخل العقل سراً ولغزاً محيراً، وحين أقول العقل فإنني أقصد به الدماغ بشقيه بحسب الافتراض الكلاسيكي: الجزء «المفكر» الذي يقوم بمهمة التعبير عن الأفكار، والتفكير والتحليل والربط والاستنتاج والحساب، اتخاذ القرارات فضلا عن الضبط والتحكم، وكذلك الجزء المعني بالغرائز والحدس والمسؤول عن الشعور والعواطف وتوليد الأحاسيس والانفعالات ورسم سيناريو الدراما بشيء من المبالغات. أفكارنا وقناعاتنا وأحكامنا، كذلك ما ينجم عنها من مشاعر وأحاسيس تتشكل منذ مرحلة مبكرة من الطفولة وقد تسبق ذلك، وهي من تحدد خط سير حياتنا. لو تتبعنا عمل العقل المفكر، لاكتشفنا أنه يعمل بشكل خطي ومستمر ويقسم الأشياء إلى فئات وأصناف وفي حلقات لسلاسل متتابعة. وفوق ذلك هو ثرثار لا يتوقف عن ضخ تيار متدفق من الأفكار, يرتفع منسوب أفكاره مع ارتفاع ضغط المشاعر عليه، وقوة دفعها إياه، تماماً كما تفعل المشاعر مع الجسد، فالبهجة والإثارة تقود الجسد نحو النشاط والحيوية، في حين أن الغضب يدفعه نحو الاشتباك بالأيدي وافتعال المعارك، بينما شعور الخوف يحمله على التقوس والانزواء. العقل لا يمكث في مكان واحد، هو صعب المراس، ولذا يتعذر تهدئته وضبطه. إن التقييمات التي يضعها العقل، للحواس دور وتأثير فيها؛ ك:رائحة عطرية، رائحة غبار، مبيد حشري، صدأ، مذاق سيئ، حامض، منظر آسر، ملامح جذابة، ملمس خشن، و مما يزيد من تعقيد عمليات العقل مسائل شائكة منها: تدخل الحالة الشعورية في كل مرة تتخذ فيها قراراً منطقياً من إنتاج الجزء المفكر من عقلك ويعمل لصالحك؛ كالامتناع عن الغيبة، الالتزام بقيمة ما، أو كالبدء بحمية غذائية أو حتى الامتناع عن التهام رقائق البطاطا المقرمشة والسكريات والحلوى، أو القيام بعمليات الادخار والتوفير مثلاً، فيتدخل الشعور خارقاً لاتفاقك مع نفسك، مظهراً ضعف إرادتك العقلية. وهذا ما يؤكد أن السيطرة الكاملة ليست من نصيب هذا الجزء، وإن توهم كثير غير ذلك، وقس على ذلك أمثلة أخرى، مع الانتباه إلى أن هذه العلاقة القائمة على الصراع الداخلي تظهر على السطح لا محالة. الجانب المفكر قد يصغي للجانب الذي يحس ويشعر، حين يهمس له ثق بي! وأن ما أحس به لا يحتاج منك إلى أدلة دامغة لتصديقه، أقبله وكفى! وكل ما يفعله الجانب المفكر، هو أن ينبش بذاكرته ويستدعي كل الأدلة التي تدعم إحساسه، وتصدق استنتاجه، فيفضي به ذلك إلى الوقوع في التحيز للذات، التعصب، والاعتداد بالرأي، إطلاق الأحكام العشوائية وتصديقها. ومما يزيد من غموض الفهم الكامل لعمل العقل والتنبؤ بما سيقدم عليه: هو سيطرة الجزء الشعوري من خلال الرغبة النفسية القلقة، الخائفة، التواقة للشعور بالأمان وما يتبع ذلك من تشغيل برنامج «البقاء» والذي بدوره تبرمج وفقاً لتجارب مماثلة، ومشاعر قد اختبرها صاحبها؛ فإذا مررت في مرحلة من حياتك بقصة ما، كتعنيف موجه لك أو لأحد إخوتك، أو لأحد والديك مثلا، فإن برنامج البقاء أو منظومة الدفاع والهجوم والخوف من بلوغ النهاية نفسها، سيرافقك بجاهزيته، طول عمرك، حاضرا في كل مناسبة ومترصداً لكافة ردود أفعالك: طالب تعرض للتنمر، أو فتاة والدها يضرب أمها فإن ردود أفعالهما حيال الطرف الآخر إما الدخول في حالة مشابهة لردود أفعال سابقة، في حال ضعف من قانون البقاء، أو اختيار المقاومة والصراع في حال قوة من جهاز البقاء. أضف لما سبق فإن عقولنا اعتادت على ممارسة التقويم؛ فحين نقيم أمراً ما بأنه جيد، فإننا نرسل تأكيداً إلى أنفسنا أننا منفتحين تجاه هذا الجيد راغبين به، في حين أننا في حال غلق وإعراض نحو السيئ، وبالتالي هو يعمل وفقا لتقييمنا. وأيضا نحن أيضاَ بذلك قد فصلنا أنفسنا عن السيئ. العقل المفكر من طبيعته أيضا الميل نحو الممارسات التالية: التعريف ثم التقييم، ثم البناء عليه، لماذا ؟ لأن العقل يبحث عن الأمان، ولذا فهو يفضل السلوكيات، والأفكار المجربة، والعادات العقلية المألوفة والمتبعة، فمثلا بمجرد ما أن ننطق بكلمة مثل: «مشكلة» يتبادر إلى الذهن جميع الأفكار، والمعلومات، ويستدعي المشاعر التي تحوم حول هذه الكلمة، وبمجرد ما أن ننطق بكلمة «ثقيل» «صعب» «سيئ» «مريض» «مجهد» «مفلس»، يحدث الشيء نفسه. هو قد يلجأ لحيل نفسية تضفي له شعوراً رائقاً بالأمان. فلا تكاد تخلو حياتنا من مشاعر مريرة، من جراء تجارب سيئة، مررنا بها، يحاول الجانب الشعوري مدافعة ذلك، عبر اللجوء إلى منازعة وإقصاء التفكير، والتفرد بالقيادة: إما من خلال بناء الحصون الداخلية من الحذر والتردد والشك والخوف وكذلك بالاستعلاء والصلف وتصدير الكراهية والإقصاء، واقتراف الحماقات، وارتكاب الممارسات الاستفزازية الصادمة للفضيلة والضمير، أو إجراء تصريحات شاذة، للفت الانتباه وجذب عدد كبير من السذج من الأتباع أو قد يلجأ إلى استعارة قوة خارجية من جهة ما، فيسلم نفسه إما، لجهة إعلامية مغرضة، أو يتبنى معلومات من جهة غير موثوقة، أو تراه في حال بحث وسعي حثيث ومستمر عن المزيد: مزيد من الأتباع، مزيد من المال، مزيد من الأملاك، المناصب، بغرض سد القطع الناقصة داخل نفسه، عن طريق التحيز الكامل للذات، أو من خلال فرض السيطرة، هو في حالته تلك كمن اعتاد الاعتماد على عكاز حتى ضمرت قوى رجليه، في حين أن القوة الحقيقية في الاعتماد عليهما. إن الجانب الشعوري من الدماغ يدفع الجزء المفكر منه إلى دوام البحث، البحث عن كل ما هو جديد؛ أفكار جديدة ومدهشة، تحل محل الأفكار القديمة قد لا يكون هو الحل، بل هو فخ! فالفكرة الجديد هي الأخرى قد تدخلنا في قفص جديد الفرق بينه وبين الفكرة القديمة أن الجديدة ندخلها عن قصد. والنتيجة أن القفص يكبر ويكبر ونشعر معه بالحرية والرضا لكنه لا يلبث أن يضيق بصاحبه، فيبحث عن أفكار جديدة أخرى إذاً يبقى القفص قفصا. وبعد مضي وقت آخر سيعود الشعور بالحاجة إلى التجديد والتوسع، فشعور الرضا والهدوء بدأ يتراجع، وعندها معاودة البحث عن أفكار جديدة، وسنبقى في حال مطاردة، يحدث ذلك كثيرا لاسيما مع الأشخاص المبدعين لأنهم بطبيعتهم ملولين ويميلون إلى التطور والتجديد. ويبقون مرتهنين للعقل بشقيه المفكر والشعوري معاً. قد يرفض العقل الشعوري، حالة التصالح مع الجزء المفكر لا لكونه غير مرتاح لصحة قراره بالتعايش معه بسلام، ولكن لسيطرة جزء قادم من أعماق النفس يعود في جذوره لمرحلة زمنية من عمره، يذكره دوماً بعدم استحقاقه للحياة الهانئة الراضية المطمئنة. كما أنه قد لا يملك الجزء المفكر القدرة على التمييز بين حالة التساهل المفرط مع الجانب الشعوري، وبين الخطأ الذي يقترفه باستمرار من جراء كبت هذا الجانب الهام، ورفض الاعتراف بوجوده، وإقناعه بأنه مجرد راكب صامت، فاقدُ للرأي والبصيرة. لا يشترط لامتلاك مهارة التعايش بسلام مع النصف الشعوري الآخر تديناً واسعاً أو شهادات علمية عليا، وليس بالضرورة أن يتحلى بذكاءٍ خارق، أو يملك ثقافة واسعة، إنها قوة نورانية ملهمة، وهي إحدى أقوى مؤشرات الحكمة ومن أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً. قدرة الجزء المفكر على الإيمان بوجود شقه الآخر من خلال تفهم الحالة الشعورية للعقل، والاعتراف بكينونتها، وعقد حالة تفاهم حقيقياً لا زائفاً معها، وإدراك دورها الجوهري، فهي من تضيف للأشياء القيمة، وللحياة المعنى، وهي من تعزز فرادتك، وتذكرك بحقيقتك، وتلهمك رسالتك، هذه القدرة على التفاهم، تتناسب طردياً مع درجة وعي العقل المفكر ومستوى نضجه، ومدى عمق حسه الإيماني، ومتانة ضميره العادل، إلى جانب استعداد العقل الشعوري، وشعوره الحقيقي بالجدارة والاستحقاق، وإلا فإن قائد المركبة سواء أكان مفكراً أو شاعراً سيقود ركابها إلى الهاوية. {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (سورة لقمان 22).