مقالة الكاتب عبدالله القفاري "الحياة" صفحة أفكار في 3/7/1999 حول تسمية جائزة "مركز دراسات الوحدة العربية" باسم جمال عبدالناصر تطرح معضلات ونواقص لا يزال يعاني منها العقل العربي المعاصر، فلا أدري إذا كان الكاتب عايش فعلاً الفترة التي تحدث عنها أو أنه كان خريجاً لما بعد ذلك من فترات، حيث اختلفت الأوضاع وتبدلت الأحوال. أولى هذه المعضلات التي لا يزال يعاني منها العقل العربي حتى وقتنا الراهن هي ذلك الطرح الشعوري واللاشعوري المتمثل بفكر المدينة الفاضلة، بحيث نحسب الأخطاء وكأنها أفعال لابشرية، وان الإنسان من الشمولية بحيث لا يمكن له أن يخطئ أو أن يتجاوز عن أخطاء الآخرين، وأنه من المقدرة بمكان بأن يلم ويدرك كل جوانب المجتمع الذي يحياه والعصر الذي يعايشه. ثانية هذه المعضلات التي يؤيدها طرح السيد القفاري هي عدم الحكم على الأمور ضمن سياقها الزمني الصحيح واستبعاد نسبية الخطأ والصواب مع تبدل الزمان، والمثل الانكليزي يقول "إننا جميعاً حكماء عندما ننظر إلى الماضي"، بمعنى ان الحكمة تلي دائماً وتتبع الفعل وليس العكس صحيحاً دائماً. ثالثاً، الحكم على الظواهر والتجارب القومية من منظور فردي لا يأخذ في الحسبان حجمها ومدى تأثيرها في حياة الشعوب، وكذلك عدم التمييز بين الفكرة وتطبيقاتها، فالوحدة فكرة في الأساس تراود شعور كل مواطن عربي، وإن بدت التجربة الناصرية نخبوية ولكن انجازاتها تعدت ذلك لتلامس أهداف وآمال كل الشعوب العربية. هذه المعضلات شاكلت طرح السيد القفاري لدى تناوله وامتعاضه من اختيار جمال عبدالناصر كمسمى للجائزة التي يمنحها "مركز دراسات الوحدة العربية"، وهو مركز يجب أن يغلب على طابعه الجانب الثقافي بعيداً عن التحيز لتجارب خاصة كما يشير السيد القفاري. إن الفترة الناصرية فترة اقترنت في العقل العربي بمفهوم الوحدة. ولو استعرضناها لوجدنا أنها مليئة بالشعور القومي الوحدوي، فتأميم قناة السويس مثلاً كان قمة في التوحد والشعور القومي، بل والانصهار العربي القومي للأمة من الخليج إلى المحيط. لم تشعر الأمة معه بقطرياتها أبداً وهذا دليل إلى امكانية التوحد نحو هدف معين. وفي بداية الستينات اوقف الشعور القومي المتمثل في القيادة الناصرية مشروع عبدالكريم قاسم بضم الكويت، وكان ذلك أصلاً اندفاعاً واعترافاً من الجزيرة العربية، حيث أمر الأمير فيصل بن عبدالعزيز ولي العهد السعودي آنذاك بالاتصال بعبدالناصر للتدخل لوقف مثل هذا المشروع الكارثي على مستوى الأمة العربية، ايماناً منه أي الأمير فيصل بشخصية عبدالناصر الوحدوية من مقابلة الأمير نواف بن عبدالعزيز مع شبكة mbc، ثم أن احتضان حركات التحرر العربية وفي مقدمها الجزائر واستضافة قادتها واحتضانهم بن بله أحد الشهود الأحياء دليل إلى اتفاق الأمة مع هذا القائد كمثال للوحدة والتوحد. وهناك دليل آخر يخصنا نحن أبناء الخليج، هو ذلك الشعور القومي التحرري الذي كان يجتاح عمال وأبناء الخليج، وكان ذلك ضمن الهيمنة الانكليزية آنذاك، بل وإعلان الاضراب تلو الاضراب لتحقيق مطالبهم العادلة احساساً منهم بقوة الدعم العربية المركزية المتمثلة في القيادة الناصرية آنذاك. أين منا ذلك الشعور اليوم؟ وحتى بعد الهزيمة المدبرة من القوى الاستعمارية استمر النضال واستمرت حرب الاستنزاف واغرقت المدمرة الإسرائيلية ايلات ولم تتحقق أمنية موشي دايان بالحصول على مطالبة الاستسلام من عبدالناصر، كما ذكر دايان في مذكراته، بل قامت حرب تشرين الأول اكتوبر على تلك المنجزات حتى جرى تسييسها بعد ذلك في عهد الرئيس السادات. إن الحقب التاريخية من التشابك بحيث يصعب فصل ايجابياتها عن سلبياتها، ولكن تؤخذ بنتائجها وبشعور الأمم نحوها. أما الأخطاء فهي وليدة التجربة الإنسانية، والطهر الثوري كما أشار عبدالله القفاري ليس موجوداً أصلاً في تاريخ الأمم، فعبدالناصر كان بشراً يخطئ ويصيب، ويكفيه شرفاً أنه بات مثالاً للطهر والعفاف فلم نسمع أبداً وبعد رحيله بثلاثين عاماً عن استثمارات تخص عائلته أو أنجاله بعد أن سيطر على المشاعر والقلوب من الخليج إلى المحيط. وبعد كل هذا يأتي من يتهمنا بالانحياز إليه بمجرد اطلاق اسمه على جائزة تخص الوحدة العربية التي أفنى فيها عمره. أما القول بضرورة عدم اقفال الباب أمام أبناء هذه الأمة وعدم فرض الأسماء والتجارب وحجب الخيارات الثقافية والبدائل الفكرية أمامهم نتيجة لهذا الفرض، كما يفهم من مقال الكاتب، فإن هناك العديد من الجوائز في جميع المجالات في شتى أنحاء العالم العربي باسماء مثقفين ومبدعين، وفي ما يتعلق بمفهوم الوحدة في تاريخ العرب الحديث هناك اقتران يجمع عليه معظم أبناء هذه الأمة بينه وبين اسم جمال عبدالناصر، بل يمكن للسيد القفاري ان يدعو إلى استفتاء حول هذا الموضوع لكي يصل إلى النتيجة ذاتها. أما الاعتراض على اسم الفائز بالجائزة وهو الكاتب الصحافي محمد حسنين هيكل، فهو أمر يمكن مناقشته، مع العلم ان مثل هذه الجوائز لديها لجان محكمة، والأمر قابل للأخذ والرد مع العلم ان السيد هيكل الأجدر في الحصول عليها لخلو رصيده من الانحياز لطرف على حساب آخر وباستقلاليته الصحافية، ويكفيه أنه لم يحتضنه نظام وإنما عاش أميناً بتجربته وفكره وهو ما ينقص الكثير من مثقفينا العرب الآن. علينا أن نتجاوز هذه الفطرية المحصورة داخل الفترة التاريخية الواحدة، والاتفاق حول رموز هذه الأمة، واغفال الصغائر، والبعد عن العصمة التي هي من خصائص الأنبياء، وعدم القفز على التاريخ الذي يسطره الكبار وعلى الجغرافيا التي يرسمها ويحدد أبعادها الكبار أيضاً، فمركز دراسة الوحدة العربية لا يمكنه تجاوز اسم عبدالناصر، خصوصاً في مثل هذه الأوضاع، وإلا كان الأجدر تحوير اسمه إلى آخر لا صلة له بالوحدة والتوحد. لم يكن هناك انحياز أصلاً من مركز دراسات الوحدة العربية حين اختار اسم جمال عبدالناصر لجائزته، بل ان الاختيار صادف هوى في نفوس الجموع العربية، وعلى السيد القفاري أن يوضح البديل. * كاتب قطري.