تجربة اليابان بعد هزيمتها من أمريكا في الحرب العالمية الثانية، وقصفها لأول مرة في التاريخ بالقنبلتين الذريتين، كانت بمثابة التجربة العملية التي تعلمت منها اليابان وأدركت حقيقة واقعها المزري حينها، كما أيقنت أن تفوق الأمريكيين له أسباب وبواعث ومبررات، ولم يكن صدفة، وإنما وبمنتهى البساطة لأن تجربتهم الحضارية كانت هي الأقوى والأقدر على البقاء، إيماناً منهم بأن قانون الطبيعة في كل الأماكن والأزمان يقول: (إن البقاء للأقوى). لم يحمل اليابانيون على الأمريكيين ضغينة، ولا كراهية ولا بغضاء، ولم يسخروا أدباءهم ومفكريهم لشتمهم وسبهم وتكريس العداء لمن فعلوا فيهم هذه الجريمة المنكرة، ولم يعد مؤرخوهم إلى تراثهم الماضي فيحاولون بعث الروح فيه من جديد، لم يفعلوا ذلك، وسلموا بالواقع، ورفعوا راية الاستسلام، واعترفوا أن تفوق عدوهم كان له أسباب، وينطلق من بواعث، وإنهم أشغلوا أنفسهم بالبكاء والنحيب على الأطلال، وعلموا أبناءهم أن كراهية العدو الأمريكي وبغضه ضرب من ضروب الانتقام، كما أن كراهيته والحقد عليه واجب أممي، لن يبرحوا مكانهم المتخلف المهزوم، فالواجب أولاً أن (يعترفوا) بأن تجربتهم الحضارية كانت سبب الهزيمة الأول، وأن اتباع الآخر المنتصر هو القرار العقلاني والصحيح، فاستوردوا المنهج الليبرالي بمعناه الشامل، وتعلموا منه الإدارة، وكيف يدار اقتصاد الدول، بل حتى أزياؤه وملابسه تزيوا بها، ورغم أنهم يستوردون كل المواد الخام من خارج اليابان، وليس في بلادهم إلا الأذهان الخلاقة، والسواعد التي تبدع، والأمن والسلام والاستقرار، أصبحت اليابان نتيجة لذلك من أكبر وأعظم الحضارات الصناعية اليوم. وفي المقابل، إذا التفت نحو العرب وقرأت أدبياتهم، وثقافتهم، فلن تجد إلا (الماضي السحيق) يسيطر على كل ما يقولون، وبه يستشهدون، وأن التليد هو الأمل، وإيقاف لحظات الزمن، ثم إعادتها للوراء هو الحل، وأن الماضي بكل أدواته لا يختلف عن حاضرنا بكل منجزاته ومخترعاته. وفي العصر الحديث تفوقت علينا إسرائيل في كل المجالات تقريباً، لأنها اتخذت الحداثة بمعناها الشمولي منهجاً، ولم تعد لتراثها الغابر تبحث فيه عن حل، بينما بقينا ننتظر (المخلص) يتجسد في هيئة عنترة بن شداد، ويحرر القدس ويقذف باليهود في البحر، لكنه للأسف لم يأت ذلك. مشكلتنا يا سادة مشكلة فكرية ثقافية، سيطرت عليها الأحلام والأوهام والأساطير، وشكل المتأسلمون قيمها ومبادئها، رغم هزيمتهم مرات ومرات. إلى اللقاء