جرت العادة أن النجاح الكبير الذي تحققه أول رواية منشورة يقود إلى كتابة المزيد من الروايات، واستنهاض الموهبة والحماسة للبذل والعطاء والاستسلام لردود الفعل التي تحرض على مزيد من النشر، لكن من غير الطبعي -وهو ما حدث فعلاً- أن تتخذ الروائية ذات الرواية الوحيدة قراراً شخصياً بالابتعاد عن الأضواء، والتوقف عن الكتابة الإبداعية واللجوء إلى الظل، مما يشكّل صدمة للمهتمين والمعجبين بهذا الفن، وحتماً سيقود هذا الابتعاد إلى الكثير من الشائعات والتكهنات عن موهبة الكاتبة ومدى مقدرتها على مواصلة السرد الروائي بنفس طويل يجعلها تحترف الكتابة الإبداعية على المدى الطويل وترتفع بذلك لياقة قلمها وقدرته على مزيد من العطاء. تماماً كما فعلت الكاتبة الأمريكية (هاربر لي)، فبعد نجاح روايتها الوحيدة «مقتل طائر مغرد» 1960م، وحققت فور صدورها نجاحاً مبهراً نالت على إثره في العام التالي جائزة «البوليتزر» أرقى جائزة أدبية أمريكية، وترجمت إلى مختلف لغات العالم، وقفزت نسبة المبيعات إلى أكثر من 3 ملايين نسخة، وتناولها النقاد والمهتمون بالفحص والتحليل والدرس، وتحولت تلك الرواية إلى مشروع فيلم سينمائي قام ببطولته الممثل (جريجوري بيك)، وحصد الفيلم ثلاثاً من جوائز الأوسكار، وأصبحت الرواية علامة بارزة في الأدب الأميركي الحديث. وفي الأدب الروائي النسوي السعودي يبرز اسم الكاتبة والروائية الشهيرة رجاء الصانع والتي أصدرت روايتها الوحيدة «بنات الرياض» 2005م، وحققت نجاحاً وجدلاً منقطع النظير، ولكنها توقفت ولم تصدر رواية أخرى، والحال ينطبق على أكثر من خمس وخمسين (55) -تقريباً- روائية سعودية اكتفين بإصدار روائي وحيد ويتيم رغم النجاح الذي تحقق لبعضهن، بدءاً من رواية (بسمة من بحيرات الدموع) 1979م لعائشة زاهر أحمد، مروراً برواية (أضياع والنور يبهر؟) 1986م لصفية أحمد بغدادي، وصولاً إلى هذا العام 2019م بروايات مثل رواية (من خلالي) 2019م لأفنان الغامدي، ورواية (الخوف كالأقدام الحافية والطرقات الخافية) 2019م نورة محمد بابعير، ورواية (قوس المطر) 2019م لإيمان الغامدي. ومع إيماننا بأنه من خلال تتبع الببليوجرافيا السعودية للنشر الروائي النسوي أنه ربما سقطت أسماء وربما غابت أخرى، وربما تداخلت بعض الفنون في وقت مضى بحيث يصعب التفريق بين الإنتاج الروائي والقصصي، إلا أنني حاولت جهدي أن أحصر هذه الروايات الوحيدة محاولاً تحليل هذه الظاهر التي تكررت على مدى أكثر من أربعين (40) عاماً، مستفيداً مما يعرض هنا وهناك من آراء نقدية لهذه الظاهرة اللافتة للنظر في أدبنا الروائي النسوي السعودي. ولعل من أبرز الأسباب التي ساهمت في نشوء هذه الظاهرة وتشكلها على النحو الذي نراه من وجهة نظر بعض المراقبين للأدب السعودي النسوي هو سطوة العادات والتقاليد المجتمعية الموروثة بما فيها من تأثيرات دينية وقبلية جعلت كثيراً من الروائيات السعوديات يكتبن بأسماء مستعارة مثل سميرة بنت الجزيرة وصبا الحرز وغيرها خوفاً من النقد، ولذلك اكتفت أكثر الروائيات اللاتي يقعن ضمن هذا التصنيف بإصدار رواية وحيدة فقط، ولعل هاجس الخوف من النقد والتحليل دعا الكثير من الروائيات السعوديات إلى الاكتفاء بالنجاح الذي تحقق في الرواية الأولى وتولد لديهن قناعة تامة أن الرواية الثانية لن تكون بذات المستوى نتيجة ربما ضعف النفس الروائي لديهن نتيجة صعوبة الكتابة الروائية ومتطلبات تقنياتها المعقدة إضافة إلى ضعف أدوات الكتابة لدى هؤلاء الروائيات، هذا السبب هو ما يميل إليه أكثر النقاد عند دراسة وتحليل هذه الظاهرة، بينما يرى آخرون أن اشتغال الروائيات بالحياة الاجتماعية كالزواج وبالحياة المهنية والوظيفية صرفهن عن التفرغ للكتابة الروائية، وأيضاً الاشتغال بصنوف أخرى من الأدب ساهم في نشوء هذه الظاهرة كاتجاه بعض الروائيات إلى كتابة المقالات الأدبية والصحفية وكتابة القصة بأنواعها وكتابة الشعر والخواطر والكتابة المسرحية، ولهذا السبب شواهد تاريخية من الأدب النسوي المحلي، حيث اكتفت بعض الروائيات بإصدار رواية واحدة، بينما أنتجت لعديد من الإصدارات الأدبية في الفنون الأخرى أو المؤلفات ذات الصبغة الدينية أو التربوية مثل الكاتبة والروائية صفية أحمد بغدادي والتي أصدرت رواية «أضياع والنور يبهر؟» العام 1986م (وهي رواية وحيدة، وذات رؤية تربوية ولم تلق عناية الأدباء والنقاد لضعفها فنياً)، ولكنها انشغلت عن التأليف الروائي بتأليف الكتب، حيث أصدرت خمسة كتب في مواضيع دينية مختلفة، وكذلك الروائية د.سعاد فهد السعيد التي أصدرت روايتها الوحيدة (يفرون من رفوف المكتبة 2003م) اتجهت إلى التأليف الأكاديمي والإنتاج الأدبي في مجال القصة يتجاوز عشرة إصدارات، وأيضاً الروا ئية إلهام محمد بكر التي أصدرت روايتها الوحيدة (أحلام خادعة 2017م) اتجهت إلى الكتابة الشعرية وأصدرت العديد من الدواوين الشعرية كما أصدرت العديد من القصص الأدبية. وثمة سبب آخر لانشغال بعض الروائيات عن الإنتاج الروائي بعد صور روايتهن الأولى وهو الانشغال الوظيفي والمهني فهذه رجاء الصانع (تعمل استشارية في مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بالرياض) فضلت إكمال دراستها العليا في مجال طب الأسنان واشتغلت بالبحوث العلمية والدراسات الطبية، وكذلك الدكتورة نورة العيدان والتي أصدرت روايته الوحيدة (بطن الحوي 2018م) ثم اتجهت للكتابة الأكاديمية بعد تقاعدتها. ونجد كذلك أن الكاتبة غادة البشر التي أصدرت روايتها الوحيدة (بصّارة بيروت 2017م) انشغلت كذلك بالصحافة والإعلام وبالكتابة الدرامية المسرحية وغيرها. وأياً تكن هذه الأسباب -أو غيرها- فإن الأمر يدعو للتأمل والدراسة والبحث والاستقصاء فكيف تتوقف روائية عن إصدار مزيد من الروايات وهي ترى النجاحات تتحقق بعد صدور روايتها الأولى؟ هل يتعلق الأمر بضعف أدواتها الفنية، وعدم قدرتها على النفس الطويل للكتابة الروائية الشاقة؟ وهل للعادات والتقاليد والتأثير الديني دور في نشوء هذه الظاهرة؟ وهل أولويات الكاتبة المهنية والإعلامية والاجتماعية ساهمت في هذا التوقف عن إصدار روايات أخرى؟ من المؤكد أن الإجابة لدى هؤلاء الروائيات وحدهن. ** **