من نعم الله تعالى على عباده المؤمنين إذا أصاب أحدهم مرض بأن يتقبل ذلك بالصبر والاحتساب والرضاء بما كتبه الله عليه غير متضجر ولا متسخط لينال مرضاة الله والأجر الجزيل منه سبحانه: قال تعالى في محكم التنزيل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} سورة البقرة (155-156). وهذا يذكرني بحال شقيقتي الكريمة: أم علي منيرة بنت عبدالرحمن الطيّار التي دبَّ المرض في جسدها منذ عامين، فأخذ أبناؤها وبناتها يتنقلون بها من مستشفى لآخر طمعاً في شفائها وبقائها بينهم في صحة وسعادة، ولكن القدر سبق السبب وفاضت روحها الطاهرة إلى ربّ كريم رحيم غفور فجر يوم الاثنين 18-12-1440ه. كلنا سائرون في هذا الطريق ولكن الموفق منا من تبقى ذكراه الحسنة في أعين الناس لسلوكه الحسن وأخلاقه وأفعاله الصالحة بعد موته، فالدنيا زائلة فانية ونحن في هذه الدنيا ودائع عند الله فالموت بأخذ الودائع، ومفاجآت الموت أليمة محزنة يباغَتُ فيها الإنسان ويُمتحن فيها المؤمن على قدر قوة إيمانه وصبره وتحمله، فأسباب الموت متعددة وأشكاله متلونة، واختلفت أعمار من خطفه الموت، فالموت لا يميز بين طفل صغر أو شاب يافع، أو شيخ كبير، كل له أجله وعمره المحسوب عد ربّ العزة والجلال، قال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} سورة الرحمن (26-27). إن الله تعالى يبتلي عباده بالصحة والمرض والموت والحياة والخير والشر لحكمة يعلمها سبحانه، وقد كتب الموت على خلقه، فالموت حق قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} (35) سورة الأنبياء. فسبحان الذي جعل الموت علينا حتماً مقضياً يأخذ منا أهلنا وأحبابنا وأقاربنا، فكل يوم لنا فقيد عزيز على قلوبنا، وليس لنا إلا أن ندعو الله للمتوفى بالرحمة والمغفرة والمسامحة. كانت رحمها الله متدينة عابدة محتسبة تتعامل مع الجميع بالرفق واللين والنصح وتعامل الناس معاملة حسنة وقد كثر أحبابها وأصدقاؤها، ويشهد لها في ذلك كل من عرفها من قريب أو بعيد والصغير والكبير، عاشت حياتها في بيت صلاح وتقوى وعبادة ومحبة، وتربى على ذلك أبناؤها وبناتها. كانت في حياتها مع تدينها صاحبة برٍّ وصلةٍ لوالدها وأقاربها، فكانت وهي صغيرة قبل زواجها في حياة الوالد -رحمه الله- الذي توفي بتاريخ 12-5-1391ه، كانت قريبة منه تلاحظه وتلبي متطلباته وتخدمه، فتسبقنا على ذلك.. توفي وهو راضٍ عنها وعنا والحمد لله.. وكانت والدتنا عندي، ولما كبرت وأعياها المرض وقبل وفاتها بوقت قليل طلبت شقيقتي منيرة مني أن تكون عندها لتخدمها وترعاها فرفضت في بادئ الأمر وبعد إلحاح شديد منها اضطررت للموافقة مرغماً وذلك عندما وجدت أن رفضي أشكل عليها وأثر عليها نفسياً وخوفاً عليها وبراً لوالدتي وافقت عليها خير قيام حتى توفاها الله سبحانه في 15-10-1435ه وقد كانت بجانبها عند وفاتها -غفر الله لهم جميعاً-. هذا شيء قليل من صلتها وبرها بوالديها. وكانت في حياتها تسعى إلى البحث عن الكتب الدينية الدعوية، وكانت تطلب مني من وقت لآخر، فتقوم بتوزيعها على الذين يطلبونها أو المحتاجين إليها خاصة كتب القرآن الكريم وتفاسيره وكتب العمرة والحج والأذكار والأدعية. وفي آخر حياتها تفرغت لدراسة القرآن الكريم وحفظه حتى حفظته وأتقنته. قالت معلمتها في تحفيظ القرآن الكريم -مغردة على تويتر بعد وفاتها- باسم سحابة أمل: كانت منيرة عبدالرحمن الطيَّار صاحبة همة عالية في حفظ القرآن ومراجعته، لم أنس ذلك اليوم الذي جاءتني فيه وقالت: أستاذة أخذت كيماوي وأرغب حضور الحلقة مع أن في داخلي ألم، ولكنني أظهرت لها أنها قوية؛ معنوياتها عالية حتى لا أكسر مجاديفها، كيف كان الله يسوقها لتلك الحلقة رغم تعبها إلا لأنه يعلم صدقها معه، كانت مصابة بالسرطان تأخذ الكيماوي وتجيء تحضر الحلقة وتُسمِّعْ ما حفظته وتدخل اختبار الأجزاء التي حفظتها.. إنها إنسانة اختارها الله واصطفاها من بيننا لتحمل هم حفظها وألم الكيماوي. سؤال لمن أنعم الله عليه بالصحة، نقول: أدرك حق القرآن قبل فوات الأوان وقبل وفاتك؟ هكذا قالت سحابة أمل. رحلت من هذه الدنيا وتركت قصة حياة لو سُطِّرتْ؛ لأبكت القلوب التي في الصدور قبل دموع العيون، بداية حياتها فقها لزوجها وتحملها رعاية أبنائها، وآخرها مصارعتها المرض، صابرة عابدة زاهدة محتسبة، نحسبها كذلك والله حسيبها. اللهم آنس وحدتها ووسع مدخلها وجازها بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً منك وغفراناً.. اللهم أجرها من ضيق اللحود إلى جنات الخلود، اللهم اجمعنا وإياها ووالدينا وأمواتنا وأموات المسلمين في جناتك جنات النعيم يا رب العالمين، اللهم أسكنها مع العليين في الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم اجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأنزل عليها البهجة والنور والفسحة والسرور، اللهم أبدل لها داراً خيراً من دارها وأهلاً خيراً من أهلها، وارفع درجاتها في مستقر رحمتك يا سميع الدعاء يا رحيم يا رحمن يا رب العالمين. نسأل الله الكريم ذا الجود والرحمة والمغفرة أن ينزلها منازل الشهداء والصالحين، وأن يجمعها بمن تحب في الفردوس الأعلى من الجنة، وأن يجعل ما أصابها رفعة لها وتكفيراً لسيئاتها ومضاعفة لحسناتها. فالحمد لله الذي له ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار.. اللهم ألهمنا رشدنا وألهم إخوانها وأخواتها وأبناءها وبناتها وأحفادها الصبر وعظيم الأجر، اللهم أجرها في مصيبتهم واخلف عليهم خيراً منها، وابعث لهم يا رب ناصراً ومعيناً برحمتك يا رحيم يا ودود يا ذا العرش المجيد. لقد بيَّن الله تعالى جزاء الصابرين المحتسبين، بأن لهم المقام المحمود والرحمة والمغفرة عند ربهم فقال سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) سورة الزمر.. {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} (156) سورة البقرة. فقد أمر الله المؤمنين بالصبر، وبشر الصابرين من عباده بالمغفرة التي صفح الله بها عن ذنوبهم مع الرحمة المهداة لهم من الله تعالى ورأفته بهم، ومع هذه المغفرة والرحمة فهم المهتدون إلى طريق الحق. فالمؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ورجع واسترجع عند وقوع المصيبة؛ كتب الله له ثلاث خصال من الخير: المغفرة والرحمة وتحقيق سبل الهدى. وفي ذلك يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: (من استرجع عند المصيبة جبر الله مصيبته وأحسن عقباه وجعل له خلقاً صالحاً يرضاه) الترغيب:256/ 4. فالمغفرة والرحمة وسبل الهدى للذين صبروا واحتسبوا واسترجعوا.{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.. وإنا على فراقك يا منيرة يا أم علي لمحزونون. ** **