ليس من عادتي أن أكتب في الرثاء ربما لأني لا أجيد سكب العواطف حروفاً وسطوراً ولكني في وداع أستاذنا عبدالرحمن الشبيلي وجدتني أنقاد للكتابة عنه راثياً متأسفاً على فقده المفاجئ وهو في قمة العطاء وتألق حكمة الشيوخ. فقبل عدة أشهر عندما أهداني مذكراته مشيناها في سيرته الذاتية التهمت أسطرها محاولا البحث عن أسرار الأيام التي أخرجت لنا هذا الرجل الفذ في الخلق والدماثة قبل العلم والحرف. ففي التقاطة ذكية من أستاذنا الدكتور عبدالرحمن الشبيلي اقتبس عنوان ذكرياته (مشيناها) من البيت الشهير (مشيناها خطى كتبت علينا .. ومن كتبت عليه خطى مشاها) وترك لفطنة القارئ استنتاج المعنى الحتمي القدري العميق للبيت الشعري الآنف لعله يلمس ذلك الخيط السري الذي يربط بين فقرات تلك السيرة ومحطاتها. وكم كنت جذلاً فخوراً عندما فاجأني الدكتور وهو لا يعرفني بإهدائي نسخة من سيرته الذاتية مشيناها وطرزها بخطه الجميل الذي يعكس نفساً واثقة ومتزنة (بمقتضى تحليل علم الجرافيك).. نعم هو لا يعرفني وليس هذا مهماً ولكن المهم أني أعرفه وأعرف قدره ومكانته كرجل دولة وإعلامي مثقف وعريق ذا إنتاج توثيقي ثر تابعت إنتاجه المتألق الذي دائماً يضيف لنا الجديد المتجدد بقلمه السيال وفكره الأصيل ورأيه محايد. وكشخصية عامة كنت أتطلع بفضول لمعرفة تفاصيل حياة حامل (وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى) ولعل مما شدني لترقب تفاصيل تلك السيرة ثقتي بحسه التوثيقي الذي سيكشف لي عن الحياة العامة التي لم أدركها لمدينتي عنيزةمسقط رأسه ورأسي في مدارج صباه. وما كدت أتصفح هديته السنية حتى لفت نظري جوانب تفوقه في حياته أدركت أنه لم يبنها بمنطق (كان أبي) بل بمنطق (ها أنا ذا) فهو لم يعش دهره كله في (جلباب أبيه الفاضل) بل اختار خطاً خاصاً به، شعاره (نفسي طموحة تستشرف المعالي).. ولعل الوقفات التالية تبين صدق هذا الشعار. لم يلجأ الدكتور الفاضل رحمه الله لتضخيم ذاته بأثر رجعي ليوهمنا أن وصل إليه من إنجاز ضخم كان نسخة مكبرة من طالب ذكي فلتة رغم صغره.. بل قدم نفسه في حال الطلب بكل واقعية وتواضع، محترماً لذوق وعقل القارئ لسيرته فقدم نفسه كطالب عادي جداً وخجول جداً ولسان حاله يقول (إني لم أولد وفي فمي ملعقة من ذهب). تمضي السنوات بالمشي في هذه الواقعية التي تصور طفولته عادية ورتيبة كما يقول هو عن نفسه، فما تشعر وأنت تقرأ محطات حياته إلا وهو يحملك بتصاعد لا شعوري لتصل إلى مقامات عالية بناها بذاته العصامية وكأن صرخة تتردد في داخله مفادها (إنما تؤخذ الدنيا غلابا). ولمتتبع سيرته تظهر عصاميته في دراسته الجامعية في كليتين للحصول على تخصصين في آن واحد يركض بينهما في الصباح والمساء.. وعصاميته في ترك السكن مع رفقة ليسكن منفرداً ومتفرغاً لبناء ذاته وتحقيق أهدافه السامية بعيداً عن مرفهات الشباب (كالبلوت التي يقول إنه لم يتقنها حتى اليوم). وتبهرك عصاميته في تنقلاته المكوكية بين استديوهات الجهاز الإعلامي الجديد المثير آنذاك في الإذاعة ثم في التلفزيون بين جدةوالرياض والتغطيات الميدانية لمناسبات عدة داخل البلاد وخارجها. ويبهرك ذلك الماشي في دروب الذكريات بمنهجه التوثيقى الصارم في ضبط تواريخ الأحداث والوفيات وليس صدفة أن يتزامن هذا الحضور التوثيقي في سيرته مع نبشه لبرنامج (شريط الذكريات) من أرشيف التلفزيون في توثيق جيل الرواد المسجل قبل أربعة عقود ونشره حالياً على الشبكة العنكبوتية. ويشدك أيضاً في سيرته نكرانه لذاته فيستخدم ألفاظا تبعده عن الأنا المستعلية في حديثه عن نفسه كقوله (ذهب) أو (صاحبنا) أو (ذلك الطفل) الخ.. وبعد أن تتبعت تلك الخطى التي مشاها في مناكب الأرض لاح أمامي تساؤل لا أعلم هل هو تساؤل مشروع أم قد طوت صفحته الأحداث وهل لدى غير ممن أدرك وأحاط بالمرحلة جواب عليه. لماذا لم يعتلِ الشبيلي كرسي وزارة الإعلام ؟؟ وهو منصب كان يستحقه بجدارة وكل معطيات سيرته العملية والمسوغات العلمية تجعله في مستوى تلك المسؤولية. فهو لم يأت للإعلام من النوافذ الخلفية ولم تصعد به الشللية. فهو من أهل بيت الإعلام إذاعةً وتلفزيوناً بل هو من الرواد المساهمين في النهوض بهذين الجهازين، نظراً لعمله مبكرا في إذاعة الرياض، كما أنه عاصر وساهم في تدشين البث التلفزيوني في بلادنا. رحمك الله يا أبا طلال مشيتها خطى كتبت عليك فبدأت خطوتك الأولى في عنيزة عام 1363 ثم شاء المولى سبحانه أن تكون الخطوة الأخيرة في باريس عام 1440 . ** **