«لكل مغرم بالكتب ثلاثة كتب؛ الكتاب المغوي الذي يستدرجه إلى فتنة السطور، والثاني الكتاب المنعطف الذي ينقله من مقام إلى مقام في حياته الدنيا، والكتاب الأخير هو الكتاب الذي تؤلفه أو تنقله...». خمسمائة وخمسين صفحة أو تزيد حاولت خلالها الوصول إلى النوع الثالث - كتاب أبي مزيد الحنفي التميمي الذي يؤلفه، فما وجدته يبرح الكتاب الأول أو بحثه عن الثاني. وجدت النجدي يرحل في الأمصار؛ بغداد، الشام، القدس، مصر، الأندلس؛ يصف لنا أحوالهم العقدية وصراعاتهم الفئوية دون أن يعود بنا إلى ديار نجد ليصف لنا أحوالها كما وصف أحوال تلك البلاد! مسرى الغرانيق في مدن العقيق للمؤلفة أميمة الخميس من الروايات التي يمكن القول إنها رواية ثقيلة سواء في حجمها أو في تفاصيلها الوصفية واللغوية، استعرضت الكاتبة فيها مهاراتها اللغوية والمعلوماتية وكأنها تبحث عن كتابة روايتها أو كتابها الثالث وفق تصنيفها أعلاه! لايوجد مقياس صارم في تقييم العمل الإبداعي ومنه الروائي، فالأمر له علاقة بالذائقة وله علاقة بالتوقعات التي ينشدها القارئ من العمل، ولكن بصفة عامة يمكن تصنيف الرواية في مفهومها بنوعين؛ نوع يكتب لنخبة النقاد والمهتمين ونوع يكتب لعموم القراء. أهل الصنعة والنقاد تطربهم التفاصيل الوصفية واللغوية والبنائية وكلما استطاع المؤلف استعراض مهاراته في هذا الشأن كلما لقي إعجابهم وربما حتى جوائزهم. أما النوع الثاني الذي يكتب للجماهير فالأهم فيه هو الحكاية والدهشة في الأحداث التي تروى. مسرى الغرانيق في مدن العقيق، رواية لن تجد صداها لدى عموم القراء وقد أرهقتني قراءتها، كباحث عن متعة الحكاية أكثر من اهتمامي بالتعقيدات الفنية وحجم المعلومات والمعرفة الموسوعية في موضوعها. ويزيد الأمر تعقيداً أن (ريثم) الحياة الراهنة السريع والذائقة الأدبية تتغير، والكثيرون ربما لن يكون لديهم الحماس لقراءة رواية بهذا الحجم تنقصه الحكاية المثيرة، في زمن الفلم السينمائي ومقطع اليوتيوب الصغير. حتى تلك الروايات الضخمة في زمنها أصبح يصدر منها نسخ مختصرة تناسب العصر كرواية البؤساء أو بائعة الخبز أو غيرها من الروايات الكبيرة. هل تصدر أميمة الخميس نسخة صغيرة من مسرى الغرانيق في مدن العقيق للقراء العاديين أم تكتفي بالنسخة الحالية النخبوية؟ لقد تحفزت لقراءة مسرى الغرانيق بعد خبر فوزها بجائزة عربية مرموقة، بحثاً عن معنى اختيارها من قبل نقاد كبار. كمية السرد والاستعراض المعرفي والوصفي وربما موضوعها وإسقاطاتها الظاهرة والمضمرة - التي تستحق قراءة متخصصة وليس المجال التوسع فيها- ربما جعلها مميزة وتستحق تلك الجائزة. هذه وجهة نظري ولست أعرف مبررات الجهة المانحة للجائزة، وأضيف بأن مسرى الغرانيق تدل على قدرة الكاتبة وجلدها وجديتها في مشروعها الروائي، مما يجعلنا نفخر بمثلها من الكتاب السعوديين، الذين يكتبون رواية تتجاوز الحدود المحلية لتجد صداها وسط قراء العربية من مختلف البلدان. هذا المقال بمساحته المحدودة مجرد تلويحة للفت الانتباه لرواية جديرة بالاهتمام، وليس لدي شك بأن من استطاعت كتابة عمل بحجم ودقة تفاصيل «مسرى الغرانيق ..» لديها القدرة على إنتاج المزيد من الإبداع...