قال تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. في ليلة الجمعة، الموافق الحادي عشر من شهر رمضان المبارك، أربعين وأربعمائة وألفًا سلم أخي الغالي اللواء الأستاذ الدكتور فهد بن أحمد الشعلان روحه إلى بارئها. واختاره الرفيق الأعلى إلى جواره، بعد مرض عضال ألم به عانى منه على مدى عامين. لقد كان في مرضه -رحمه الله- يضرب لنا القدوة والمثل (كعادته) في الصبر والاحتساب والرضا بقدر الله ومشيئته. فلم تفارق الابتسامة محياه طيلة فترة مرضه، ومداعبته لمن حوله، وكان دائم السؤال عن أقاربه وأصدقائه فيفرح في اجتماعهم حوله رغم آلام مرضه ويردد كلمته (أنا بخير، أنا طيب). حتى في ثلاثة الأشهر الأخيرة حين اشتد عليه مرضه، وأدخله في سبات طويل، فكان في لحظات إفاقته القصيرة يرمق إلينا بنظراته الحانية ويحرك لسانه دون صوت يسمع محاولا القول الحمد لله.. الحمد لله ليطمئننا عنه، رحمه الله. إن أخي الغالي أبو ماجد هو -حقًا- مجموعة إنسان. هو الابن، والأخ، والأب، والضابط، والأكاديمي، والإداري، والباحث، والأديب، والصديق. وهو في الإنسانية قمتها، وفي مكارم الأخلاق أعلاها، وفي الإدارة عرابها، وفي العسكرية انضباطها، وهو في الأكاديمية جودتها، وهو في البحث العلمي رائده، وهو في الأخوة سندها، وهو في الأبوة حنانها، وفي البنوة برها، وفي الصداقة نبلها. كان طموح الغالي -رحمه الله- يلامس عنان السماء. يبحث عن التميز في كل مرحلة من مراحل تعليمه. فقد تخرج من كلية الملك فهد الأمنية (كلية قوى الأمن الداخلي سابقا) وكان ترتيبه الأول. وبعد ذلك التحق بجامعة الملك سعود فحصل على درجة البكالوريوس في تخصص الإدارة. وحصل على درجة الماجستير في أرقى الجامعات الأمريكية (جامعة ريدلاندز، كاليفورنيا) في تخصص إدارة الموارد البشرية (بامتياز)، وبعدها حصل على الدكتوراه في (جامعة بيتسبيرغ) في الولاياتالمتحدةالأمريكية في تخصص الإدارة (بامتياز). فجمع في ذلك ما بين الشخصية العسكرية والشخصية الأكاديمية. وقلما تجتمع هاتان الصفتان في شخص واحد. عندما يتعامل -رحمه الله- مع العسكريين فهو عسكري تبرز لديه السمات العسكرية من ضبط وربط وحزم. وعندما يتعامل مع الأكاديميين فهو أكاديمي، بفكره وتحليله وطرحه العلمي. واصل رحمه الله طموحه إلى أن حصل بجدارة على الأستاذية في تخصص الإدارة. لديه سجل حافل بالمنجزات العلمية، من بحوث ومؤلفات، (كتاب إدارة الأزمات، وكتاب التدريب الأمني العربي، وكتاب خواطر ملونة). كما حصل على جائزة دول مجلس التعاون الخليجي للبحوث الأمنية. خدم -رحمه الله- دينه ووطنه وولاة أمره بكل تفان وإخلاص في المجال الأمني، ومثل وطنه خير تمثيل في المحافل العلمية، في مؤتمرات وندوات. وحصل على تسعة أنواط وأوسمة تقديرية في مجال عمله الأمني. أما سيرته الوظيفية فحافلة بالتميز، فقد عمل -رحمه الله- في مكتب سمو وزير الداخلية للدراسات والبحوث، ثم عمل مديرًا للمكتب في الرياض، ثم عمل في جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية عميدًا لمعهد التدريب، ورئيسًا لتحرير المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب، ثم عمل عضواً في هيئة التدريس في كلية الدراسات العليا في الجامعة. وأسس مركز (الأزمات وتطوير القيادات العليا)، وعمل عميدًا للمركز، وأنشأ وترأس المجلة الدولية لأبحاث الأزمات. كما صمم برنامج ماجستير في إدارة الأزمات. ثم عمل -رحمه الله- مديرًا للمعهد الثقافي. حيث طور برامج المعهد التدريبية، ونقله نقلة نوعية في الهيكل والمحتوى من معهد إلى أكاديمية نايف للأمن الوطني. حصل -رحمه الله- على ثقة ولاة الأمر حيث عُين مديرًا لكلية الملك فهد الأمنية. وكعادته -رحمه الله- في عشقه للتطوير والتحسين والتميز، فقد نقل الكلية بخبرته العسكرية والأكاديمية والتدريبية نقلة نوعية. فشحذ الهمم ورسم الطريق وحول الكلية إلى خلية عمل في التعليم والتدريب والبحث العلمي. وغير شعار الكلية إيذانًا بدخولها مرحلة جديدة من التطوير. فأسس رحمه الله أحد عشر دبلومًا عاليًا متميزًا لا نظير له في المؤسسات الأخرى في المحتوى والجودة العلمية والأكاديمية وحصلت الدبلومات على أثر هذا التميز باعتراف وزارة الخدمة المدنية وظيفيًا. أتذكر أثناء الاجتماع معه -كمنسوبي للكلية- -رحمه الله- عند بداية التفكير والتصميم لتلك الدبلومات أنه يقول أريد دبلومًا متميزًا لا نظير له في المؤسسات التعليمية الأخرى. فتعرض عليه العديد من الأفكار وكان حريصًا في انتقاء الأجود منها. وكان يردد -رحمه الله- دائمًا أن الكلية تزخر بالكفاءات العالية في المجال الأكاديمي والعسكري، لذا فكان لا يرضى إلا بالتميز في كل مناشط الكلية. وعلى الصعيد الدولي أسهم -رحمه الله- في إشراك الكلية عضوًا مؤسسًا في اتحاد أكاديميات الشرطة الدولي INTERPA. وعقد مؤتمر اتحاد الشرطة الدولي في الرياض. أدار -رحمه الله- الكلية بشخصية القائد الذي يتلمس احتياجات المنسوبين. فكان له مع كل واحد من منسوبي الكلية قصة دعم وتشجيع ومساندة ومساعدة. مما أسهم في رفع الروح المعنوية للمنسوبين. كان يهتم بالتفاصيل الصغيرة ويعالجها حتى لا تكبر. وكان من كلماته المأثورة -رحمه الله- أن منظومة العمل كالساعة التي تعمل على تروس والتي تتطلب حركتها وتناغمها أن جميع تلك التروس تتحرك في وقت واحد. لذا فالترس الصغير له من الأهمية بمكان كالترس الكبير. وكان في حفل التخرج والمؤتمرات والمناسبات العلمية الأخرى يحرص كل الحرص على أن يوزع العمل بشكل دقيق وأن يعرف كل فرد دوره في منظومة العمل وأن لا يترك أي شيء للمفاجآت حتى يخرج ذلك الحفل وتلك المؤتمرات في أبهى صورها. ففي ندوة المجتمع والأمن التي تعقدها الكلية، كان رحمه الله يجتمع مع كل لجنة من لجان الندوة ليقدم توجيهاته ويجيب على استفسارات أعضاء اللجان. كان يشجع -رحمه الله- منسوبي الكلية على المبادرة بالأفكار التطويرية. وما أزال أتذكر كلمته التي قالها في أول اجتماع له مع منسوبي الكلية (أرحب بكل الأفكار التطويرية، وسأقف مع كل واحد يقدم مبادرة وسأدعمه وتبقى الفكرة باسمه، وسأقدمه إلى سمو وزير الداخلية ليحصل على التكريم). وقد فعل. ما ذكرته هنا عن سيرته الوظيفية هو غيض من فيض. فكل من تعامل معه أو سمع عنه -رحمه الله-، يتذكر الكثير والكثير عن مناقبه وتواضعه وحسن إدارته. وفي المحيط العائلي، كان -رحمه الله- حسن البر بوالديه (رحمهم الله)، يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، مطيعا لهما، يقف كالطفل أمامهما، يلبي احتياجاتهما. يستأذنهما عند سفره، وعند عودته يحرص على التوجه إليهما مباشرة لرؤيتهما وتقبيل أياديهما ورأسيهما. لازم والديه في صحتهما ومرضهما وكان لا ينقطع في زيارته لهما يومًا. وفي علاقته معنا نحن إخوته كان يعاملنا معاملة الأب لأبنائه. فكان شديد الحرص على مستقبلنا فوقف لنا داعمًا ومساندًا وناصحًا. فذلل لنا الصعاب. وكان - رحمه الله- يسعى لرسم الابتسامة على وجوهنا منذ كنا أطفالاً من خلال ملاطفته وإدخال السعادة على قلوبنا. فنعم الأخ هو. وقد لازم -رحمه الله- أخينا معالي الفريق طيار ركن محمد أثناء مرضه داخل المملكة وخارجها، وكان نعم المساند له -رحمهما الله جميعًا-. كان من عاداته -رحمه الله- صلة الرحم. فيزور القريب والبعيد في الرياض والقصيم وجدة، ويتلمس حاجاتهم. فهو يصل الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وجميع أولادهم. فكان يجمع الأقارب في كل مناسبة ويحرص على دعوتهم وحضورهم. والشيء بالشيء يذكر، فقد كان لنا قريب يسكن في مدينة جدة وحيدًا. انقطع الاتصال به وتعثرت حالته. فبذل -رحمه الله- جهدًا كبيرًا في البحث عنه حتى وجده. فكان في كل مرة يزور مدينة جدة يقابله ويدعوه ويتلمس حاجته ويقضيها له ليرسم البسمة على محياه. كان -رحمه الله- يحب مساعدة الناس والوقوف معهم ويمشي في حاجاتهم حتى يقضيها. لم يهمل اتصالاً يأتيه من أي شخص يطلب مساعدة أو معونة. بل كان سباقًا للخير يعطي من لا يخشى الفقر. ويصدق عليه قول الشاعر: ولأنه -رحمه الله- كان بارًا بوالديه فقد حظي -رحمه الله- ببر أولاده جميعًا قبل وفاته. وقد قدموا مثالاً للأولاد البارين بوالدهم. حيث لازموه طيلة فترة مرضه لا يغيبون عنه لحظة. فكانوا هم من يتابع علاجه، ويشرفون على حالته الصحية، وهم بأنفسهم من يقدم له الدواء والغذاء. ومن شدة حرصهم على والدهم كان التصاقهم به شديدًا فكانوا يشعرون به في آلامه وتنهداته. فنعم الأولاد هم. اعتراني الحزن واغرورقت عيناي بالدموع وأنا أرثي أخي الغالي أبا ماجد. وتمنيت أنه هو من يرثيني، كما -رحمه الله- رثى والدنا ووالدتنا وأخانا معالي الفريق الطيار ركن محمد -رحمهم الله جميعًا-. ولكن هنا تذكرت قول الشاعر ابن الرومي: مصابنا جلل بفقدانك يا أبا ماجد. فلله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيء عنده بحسبان. ولا نقول إلا ما يرضي الله {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}. إلى جنة الخلد يا أبا ماجد. ** **