ما أصعب فقد الأحبة، وغيابهم عن نواظرنا، وأشدُّه إيلاماً وتفجعاً يُساور النفوس أزماناً طِولاً كلما يمُرُّ ذِكرهم، مُحَرِّكاً شَرِيطَ ذكريات الطفولة الجميلة معهم، وما يجري فيها من مَرح ولهو يَسُوده الفرح: وكان لنبأ رحيل صديقي -أبو عبدالله- محمد بن عثمان بن الشيخ القاضي عبدالله الرشيدان -رحمهما الله- بالغ الأسف والحزن العميق، فقد أثار في نفسي كوامنها، وحلق بي الخيالُ على عَجَل في أجواء تلك الأيام والليالي المُقْمرة مراتع صبانا، التي كنا نسعد فيها مع رفاقنا بمزاولة أنشطتنا الشعبية ليلاً، فما أحلاها، وألذها في شِعاب النفوس، مُتمنين رجوعها، ولكن هيهات عَودتها، فعزّ الفؤاد عزاء جميلاً: وكانت ولادته في حريملاء، وعاش ذروة شبابه في أكنافها بين أحضان والديه مع إخوته وشقيقاته، ومع رفاقه وأحبته في أجواء فرح ومسرات..، ثم بدأ دراسته الأولى لدى عميد الكتّاب المقرئ الشيخ محمد عبدالله الحرقان -رحمه الله- وحفظ ما تيسر من قِصار السّور. وكانت ملامح الذكاء والنشاط سبباً في سرعة حفظة، ومُسايرة زملائه..، ثم انتقل إلى الرياض مُبكراً وأخذ يحضر مجالس العلماء، فهو يتمتع بثقافة عالية دينية وثقافات عامة أهّلته لأن يشقّ طريقه في الحياة..، عملياً واجتماعياً..، ثم تعين في الديوان الملكي بمجلس الوزراء، وظل في نفس العمل محترماً خمساً وخمسين عاماً حتى تقاعد، حميدة أيامه ولياليه، وكان محبوباً لدى رؤسائه وزملائه لما يتمتع به من حيوية ونشاط مستمر، تغمده المولى بواسع رحمته. وكانت وفاته قُبيل صلاة يوم الجمعة 26-5-1440ه وأديت صلاة الميت عليه يوم السبت 27-5-1440ه بجامع الملك خالد بأم الحمام، ثم نُقل إلى مهوى رأسه حريملاء ووري جثمانه الطاهر بمقبرة «صفيّة» -رحمه الله-، ولك أن تتصور حال أبنائه وهم يُهيلون التراب على جدثه حتى غاب عن نواظرهم، وبداخلهم ما به من لوعات الفراق الأبدي -كان الله في عونهم- وعزاؤهم أنه عاش سليم الصّدر مُعرضاً عن مساوئ الناس، ومحباً للبذل في أوجه البر والإحسان تاركاً ذرية صالحة وذكراً حسناً: ولنا معه ذكريات طويلة جميلة تخللها تبادلاً في إهداء الكتب النافعة، وبعض الزيارات، أذكر جيداً أني دخلت منزل والده عثمان الواقع في محلة «الموافق» بحريملاء بصحبة والدي العالم الجليل والشيخ الكريم/ عبدالرحمن بن محمد بن ناصر المبارك، وابنه الصديق الحبيب عبدالعزيز الذي كثيراً ما نصحبهما إذا دُعيا للقهوة بعد المغرب..، في غالب الأيام لمحبة الجماعة في تكريمهما لمكانتهما العلمية، فَنحظى بشرب الحليب والشاي النادر آنذاك معهما -رحم الله الجميع-.. وحينما رآني ابنه في منزلهم فرح كثيراً، واستغرب تلك المفاجأة التي سُرّ بها..، فذكريات أيام الطفولة تبقى خالدة في شعاب النفس مدى العمر. تغمد الله الفقيد بواسع رحمته ومغفرته، وألهم ذويه وأبناءه وبناته، ومحبيه الصبر والسلوان. ** **