أعلنت أمريكا الحرب على بريطانيا عام 1812، فهاجموها في كندا، بنية احتلال كندا ومد الأرض الأمريكية للقطب الشمالي، وقطع الدعم البريطاني عن الهنود الحمر الذين كانوا يشكلون عائقا لامتداد أمريكا غربا. نجح الأمريكان ابتداء، فدخلوا كندا واحتلوا عاصمتها آنذاك «يورك»، وحرقوا مبانيها الحكومية. ولعل قرار الأمريكان باحتلال كندا جاء متأخرا. ففي العام نفسه، وبعد تسعة أعوام من الحروب الشرسة للجيش البريطاني ضد نابليون، انتصرت بريطانيا على نابليون وأصبح جيشها متوافرا للسير إلى أمريكا، فسرعان ما هاجم السواحل الأمريكية من كل جهة، واخترق أمريكا من الشمال فأسقط ديترويت وشيكاغو وما حولهما وخلفهما وصولا إلى واشنطن العاصمة. وفي ساعات، تهاوى الجيش الأمريكي الذي كان يدافع عن العاصمة، ففر الرئيس الأمريكي ماديسون وأعضاء الحكومة الأمريكية من واشنطن وهم ينظرون خلفهم لواشنطن وهي تحترق. ولحقت بهم زوجة الرئيس بعد أن فرغت البيت الأبيض من الأثاث والمتاع القابل للاشتعال، وبعد أن أخذت معها الرموز الوطنية، كرسم الرئيس واشنطن، وذلك بعد أن أخرجتها من إطارها. ودخل البريطانيون واشنطن، فدخلوا البيت الأبيض وأكلوا عشاء الرئيس، ثم أضرموا في البيت الأبيض النار. وعاثوا تخريبا وفسادا في العاصمة، كما حرقوا مبنى الكونجرس. وما كانت واشنطن آنذاك، إلا مستنقعا للبعوض من أسوأ المدن وأقذرها، ولا يسكنها إلا ثمانية آلاف شخص. وغزو البريطانيين لواشنطن، إنما كان عملية انتقام لما فعل الأمريكان سابقا، بعاصمتهم الكندية، «يورك». ولهذا، خرج البريطانيون بعد يوم من واحد من واشنطن، فواشنطن لم تكن ذا قيمة عملية للهدف البريطاني الرئيسي من غزو أمريكا. فهدف بريطانيا الاستراتيجي كان احتلال نيو أورلينز في الجنوب، لتُسقط بريطانيا ملكية أمريكا لقطاع لوزيانا -والذي يشكل أكثر من ثلث أمريكا اليوم- غير معترفة بشراء أمريكا من فرنسا للوسط الأمريكي -اليوم- الممتد على طول نهر المسيسبي غربا، بخمسة عشر مليون دولار! وبالتالي، تعزل أمريكا عن الغرب، فتمنعها من التوسع وصولا للأطلسي، كما منعتها -باستعمارها كندا-، من التمدد شمالا للقطب الشمالي. رمى البريطانيون بثقلهم في حملتهم على نيو اورلينز، فجهزوا عشرة آلاف جندي، مقابل خمسة آلاف اخترقوا الشمال الأمريكي حتى احتلوا واشنطن العاصمة. ولم يكن للأمريكان جيش يُذكر، وخاصة في الجنوب، فأسندوا المهمة لأندرو جاكسون -الذي صار رئيسا لأمريكا فيما بعد والذي وضعوا صورته على فئة العشرين دولارا تكريما له بعد موته-. وجاكسون يجمع المتناقضات، فعلى تكريم الأمريكان له، إلا أنهم يلقبونه بالرئيس الشيطان، لخبثه وعنفه وتدني خلقه وعدم وفائه ونقضه للعهود. ولا مجال اليوم للحديث عن جاكسون، ولا عن تفاصيل هزيمته للبريطانيين العشرة الآلاف، بألفي جندي جمعهم جاكسون من الهنود والعبيد والمجرمين والمشردين. فقد هزمهم جاكسون شر هزيمة، وفر البريطانيون مخلفين وراءهم أكثر من ألفي جندي وضابط بريطاني، بين قتيل وجريح وأسير، بينما لم يُصب من مرتزقة جيش جاكسون، عشرون رجلا. فشتان بين الجيش الأمريكي الذي كان يدافع عن واشنطن -والذي كان أكثر عددا وعدة أفضل تدريبا وقيادة، والذي فر من وجه خمسة آلاف جندي بريطاني، في أهون موقف للجيش الأمريكي إلى اليوم –، شتان بينه وبين جاكسون وجيشه المتهالك القليل. وهذا شاهد تطبيقي، على أن النصر والنجاح والهزيمة والفشل، ما هو إلا صناعة القادة. وللحديث عن نيو اورلينز وجاكسون، مواقف أخرى لاحقة، إذا شاء الرحمن.