مجموعة «هاتف»، تحتوي على إحدى وعشرين قصة قصيرة، يغلب على معظمها قالب القِصر، امتاز معظمها بالتركيز. وحققت ذلك الامتياز، الذي حققته القصة القصيرة من بين أنواع التعبير الأدبي، حيث حسمت ذلك الجدل الذي ثار، قبل عقود من الزمن، حول شكل القصة القصيرة. ولم تعد في حاجة إلى مزيد من التنظير، بل أصبح التنظير النقدي، يتحقق وينمو على ضفاف إبداعات السرد القصصي, فالمنجز الإبداعي, لا يملك مرجعية موضوعية خارج نطاقه, لأنه يخلق موضوعه الخاص, من خلال منظورات عديدة لهذا الموضوع. وتحتوي هذه المجموعة، على ست عشرة قطعة أدبية، أطلق عليها الكاتب اسم «قصص قصيرة جدًا» وهو مصطلح يستعمله كثير من كتاب القصة، هذه القصص القصيرة جدًا، تتحقق لها بعض صفات السرد القصصي الجزئي وليس الكلي. فلم تتحقق لها التقنية الفنية والأدبية الشاملة، للقصة القصيرة، وهو ما يحمل إلى الدعوة لوضع مصطلح أدبي لهذا القالب الأدبي، الذي ينجذب إليه بعض الكتاب، لما يمنحهم من إمكانات التركيز والإيحاء، في شحنة إبداعية مكثفة. مثل ذلك الذي تحققه الرباعيات في الشعر, وهو الشكل الذي اهتدى إليه الشعراء. وهو فن أصيل من فنون الشعر. وقد عُرف من بين فنون القول البلاغي، ما عُرف بالآبدة (الأوابد) وهي جملة قصيرة بليغة مؤثرة. جاء في المعجم الوجيز «الصادر عن مجمع اللغة العربية: أَوَابد الكلام: غرائبه وعجائبه. فهل يُصح أن يُطلق على هذا النوع من الإبداع اسم «أوابد قصصية» بدلاً من قصص قصيرة جدًا. لأن القصة هي بطبيعتها قصة قصيرة، سواء قصرت أو طالت، وحاكميتها تعود إلى طبيعة تقنيتها الفنية، التي جعلتها مختلفة عن الرواية. وهذا يذكرني حينما نشطت حركة التنظير «للشعر الحرّ» واحتدم النقاش، بين إطلاق هذا الاسم على الشكل الجديد في الشعر الذي انتشر منذ الأربعينيات الماضية، وبين اسم «الشعر الجديد» أو «الشعر المعاصر» أو «الشعر المرسل» أو «شعر التفعيلة». وسعى بعض النقاد ومنهم الراحل «الدكتور عز الدين إسماعيل» إلى وضع تنظير موضوعي لبعض المصطلحات النقدية لقصيدة الشعر المعاصر (في كتابه «الشعر المعاصر - قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية»، 1966)، مثل مصطلح: «القصيدة الغنائية» و»القصيدة الدرامية». وأن قالب القصيدة الذي يحدد طول القصيدة أو قصرها، لا يحدد مصطلحها، فيجوز أن تكون القصيدة الغنائية طويلة لكن موضوعها غنائي. وينطبق هذا المنحى على تعريف القصيدة الدرامية. وسوف أختار نماذج من هذه القصص، وأضعها تحت عنوان «قصص قصيرة» معتبرًا -من منحى نقدي- أنها قصص، بصرف النظر أنها «قصيرة جدًا» وإنما «قصص قصيرة» كما استقر عليه المصطلح النقدي المعاصر. واترك للقارئ، متعة القراءة، ومتعة التأويل: سؤال حول طاولة الطعام سألت الابنة والدها: ما هو العمر الذي يمكن أن يكون الإنسان حرًا طليقًا، وكأنه لم يدرك السؤال: سألت أقصد العمر. هز رأسه الأشيب، ابتسم وقال: بعد 85 سنة. قالت له: إذًا حتى هذه اللحظة لست حرًا، قال لها نعم. قالت ولماذا هذا العمر بالذات، قال لها: الحرية هنا تأخذ منحي آخر. باب في طرف المدينة، يقبع باب كبير وقديم من الخشب الذي منحته الصحراء لونها, مجموعة من الأقفال الصدئة توصده، العربات تمر مسرعة بجانبه، لا أحد انتبه: أن لا جدران ذات اليمين وذات اليسار. فقط الباب الموصد. خالتي أعرفها حق المعرفة، كانت تبكي من الضحك.. خالتي التي لا أضيع رائحتها وسنها المذهبة، كانت تهرب من زوجها إليه. تضحك.. ثم... تضحك بكينا حين ماتت أثناء عملية للقلب. قال الطبيب: كانت تبتسم أثناء العملية. خالي أجمل صوت في الشعوف، غنّى للريح والمطر و«الخوالي» وفجأة. ذهب صوته. نساء القرى زرنه سرًا، كان يتحدث بعينيه وكأنه يعرفهن، لاذ بالصمت، ذرف دمعة وتشهد. صالح أحبها حتى البكاء. ثم أحبها حتى النواح، حاول إخراجها من قلبه. تحت أستار الكعبة طلب من الله أن ينقذه من محنتها. وبتراجع العشاق، التفت إلى السماء. ولم يذكر اسمها. ويبدو أن هذه المشكلة الفنية, قد واجهت بعض الكتاب, مثل «الطيب صالح» ففي مجموعته القصصية (دومة ود حامد) وهي تحتوى على سبع قصص, القصة السابعة منها جعل عنوانها: «مقدمات», وهي مما اصطلح على تسميتها عند بعض الكتاب «قصص قصيرة جدًا» ويبدو أنه رأى أن هذه القصص القصيرة, هي قصص لم تكتمل شكلاً وموضوعاً, فاهتدى إلى أن وضعها تحت مسمى «مقدمات», وهي خمس مقدمات, وربما يقصد أنها مقدمات لقصص لم تكتمل – وسوف أعرض هنا نموذجاً من هذه المقدمات للطيب صالح – ولكنها تتشابه مع ما اصطلح بعض الكتاب -ومنهم محمد علوان- على تسميتها قصص قصيرة جدًا. و»نجيب محفوظ» اهتدى إلى شكل أطلق عليه اسم «حواريات» أي القصة الحوارية. وقد اهتدى إلى هذا الشكل؛ في أعقاب حرب 1967 وما آلت إليه. وقال: «إنه شكل يجمع بين المسرح والقصة, ولكنها لا تلتزم بمقتضيات المسرح؛ وإنما وجدت حلاً لا بأس به من كتابة الحوريات, التي تناقش بالحوار من غير أن تلتزم بمقتضيات المسرح. والحوارية لا تستطيع أن تحكم عليها بمقاييس القصة القصيرة فقط, وبالمقاييس المسرحية, وإنما هي شكل جديد بين بين» (من حوار أجريته مع نجيب محفوظ في أكتوبر 1971). وقد فاجأ القراء والنقاد, بعد ذلك في عام 1994 بشكل إبداعي جديد, يقع ما بين القصة والمذكرات اليومية, يروى فيها بعضاً من الأحداث التي مرّت عليه في حياته؛ اسماها (أصداء السيرة الذاتية) ثم بعد ذلك وفي نفس الفترة؛ فاجأ الأوساط الأدبية, بشكل جديد أسماه: (أحلام فترة النقاهة) وهي قطع أدبية يروي فيها أحلاماً مرت عليه (سوف أعرض نماذج من أصداء السيرة والأحلام). هذه الأشكال الأدبية تقع «بين بين» كما قال نجيب محفوظ, ويسميها نجيب محفوظ «أقصوصة», وهي ليست بالقصة القصيرة المكتملة ولا الناقصة, لأن لها بداية ونهاية وموضوع. ولأن مصطلح القصة القصيرة؛ قد استقر على تسميته: قصة أو قصة قصيرة, بصرف النظر عن طولها أو قصرها, لأن موضوعها هو الذي يحدد شكلها طويلاً أم قصيرًا. وعليه فإن هذه القصص, التي اصطلح على تسميتها (قصص قصيرة جدًا)؛ هي قصص قصيرة, ولتميزها عن القصة القصيرة, لا بد من البحث عن مصطلح لهذا النوع الأدبي؛ الذي اقترحت له اسماً (أوابد قصصية) واحداتها (آبده) أو (مقامات) واحدتها (مقامة) دون الالتزام فيها بالسجع أو بشكل المقامه المعروف. نماذج من مقدمات الطيب صالح: أغنيَة حُبّ كنت دائماً أود أن أغني, لكن صوتي كان نشازًا, ولم أكن استطيع أبدًا أن أجيد نغمة واحدة, لسوء حظي. إلى أن لقيتها. قالت إن أردت فعلاً أن أغني, فعليّ إذاً أن أغني, مهما كان وقع صوتي قلت: «لكن صوتي نشاز». قالت: «غنِّ عن الحب. الناس تستويهم أغاني الحب الحزينة». وهكذا ابتدأت. لم يحفل الناس بي أول الأمر. ثم أخذوا يصغون. بل إن بعضهم أحب أغانيّ. كانت عيناها خضراوين وكان فهما واسعاً وحاجباها نبيلين مقوسين بروعة. كانت تحبني وتحب العالم كله, ما عدا اليابان قتل اليابانيون أخاها في الحرب الأخيرة. ومع هذا فقد تركتني لأنني ترددت. أمر محزن, نوعاً ما, لأني وأنت كنت أحب أن يسمع الناس غنائي, فإنني أغني لها خاصة. سوزان وَعلي كان اسمه علي. واسمها هي سوزان. الخرطوم. لندن. درست الفن في معهد سليد. درس العلوم السياسية في معهد الاقتصاد بجامعة لندن. قالت: «تزوجني». قال: «لا. صعب». قالت: «لكني أحبك». قال: «وأنا أيضًا أحبك. لكن..». ومن ثم عاد إلى بلده. وأخذ يتراسلان. «لكنني أحبك يا علي». «وأنا أحبك يا سوزان, لكن...». ستة أشهر. كتبت تقول: «قابلت رجلاً. سأتزوجه». كتب يقول: «لكني أحبك يا سوزان». وانقطعت الرسائل. يفكر بها في غالب الأحيان. وتفكر به من حين لآخر. لكن.... نماذج من نجيب محفوظ: 1- (أصداء السيرة الذاتية) 2- (أحلام فترة النقاهة) النسيان من هذا العجوز الذي يغادر بيته كل صباح ليمارس رياضة المشي ما استطاع إليها سبيلا؟ إنه الشيخ مدرس اللغة العربية الذي أحيل على المعاش منذ أكثر من عشرين عاماً. كلما أدركه التعب جلس على الطوار أو السور الحجري لحديقة أي بيت, مرتكزًا على عصاه مجففاً عرقه بطرف جلبابه الفضفاض. الحي يعرفه والناس يحبونه, ولكن نادرًا ما يحييه أحد لضعف ذاكرته وحواسه. أما هو فقد نسى الأهل والجيران والتلاميذ وقواعد النحو. رسالة وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب وأنا أعيد ترتيب مكتبتي. ابتسمت. انحسرت غيابات الماضي السحيق عن نور عابر. وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس. وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس. وتذكرت قول الصديق الحكيم: «قوة الذاكرة تنجلي في التذكر كما تنجلي في النسيان». التلقين جلست في السرداق انتظر تشييع الجنازة. خيمت فوقنا ذكريات ذلك العهد القديم وجاء رجال ذلك العهد يسيرون رجلاً وراء رجل كانت الأرض تزلزل لأي منهم إذا خطا. اليوم هم شيوخ ضائعون لا يذكرهم أحد. وجاء خلفاؤهم تنحني الأرض تحت وطأة أقدامهم تقول نظراتهم الثابتة إنهم ملكوا الأرض والزمن أخيرًا, هلّ النعش فوق الأعناق فتخطى الجميع وذهب. همسة عند الفجر في مرحلة حاسمة من العمر عندما تسنم بي الحب ذروة الحيرة والشوق همس في أذني صوت عند الفجر: - هنيئاً لك فقد حم الوداع وأغمضت عيني من التأثر, فرأيت جنازتي تسير وأنا في مقدمها أسير حاملاً كأساً كبيرة مترعة برحيق الحياة. حلم 107 أنه من تراحم عجيب, ففي حقيقته يرقد نعش كتب عليه أن هذه جنازة فلان تنفيذا لوصيته, وفلان زميل كريم اشتهر بندب حظه السيئ فعلى كثرة مؤلفاته لا يكاد يعرفه قارئ, وجاء المشيعون والمتفرجون حتى بلغ الكرام المدافن وسط مظاهرة لم تشهدها جنازة من قبل, وما جاء المساء حتى كان اسم الراحل يتردد على كل لسان. حلم 143 سمعت صوتا غير مألوف فمرقت بسرعة إلى فناء العمارة فرأيت رجلاً غريباً أثار في نفسي الريب, فناديت البواب ولفتُّ نظره إلى الرجل الغريب, فأخبرني بهدوء أنه موظف ويؤدي واجبه الرسمي وهو أخذ الزائد من الأفراد من المساكن المكتظة وينقله إلى مسكن يتسع له, فاعترضت قائلاً إنه يأخذ فردًا من أسرة ويخلف حزناً وينقله على رغمه إلى مكان لا يرحب به, فقال البواب إن هذا هو القانون ونحن لا نملك حياله إلا الإذعان والتسليم. حلم 145 هذا مهرجان عظيم جمع العديد من رموز الأمم, وناداني رئيس المهرجان وسلمني كرة وهو يقول إنها هدية المهرجان لك وهي من الذهب الخالص, وانهالت علىَّ التهاني, ولما رجعت أعلنت نيتي على التبرع بنفس الهدية لأعمال الخير فجاءوا بمنشار وأخذوا يقسمونها, ولما وصل المنشار إلى باطن الكرة دوى المكان بانفجار مزلزل وتطايرت شظايا الضحايا من الإنسان والحيوان والنبات والجماد. حلم 146 انتصر العدو واشترط لوقف القتال أن يتسلم تمثال النهضة الذهبي المحفوظ في الخزانة التاريخية, وذهبت مع فريق لنحضر مفتاح الخزانة المحفوظ بالصندوق الأمين, ولما كشفنا غطاء الصندوق تبدى لنا ثعبان مخيف ينذر بالموت كل من يدنو منه, فتفرقنا وأنا أداري فرحتي وأدعو للثعبان بالسلامة والتوفيق في حفظ المفتاح.