يحتد النقاش بيننا فينفر كلانا من الآخر، ويشعر بعد حين أنه لا يتقبل وجوده. هل المشكلة في أنه مختلف عني؟ فليكن، ما الضير في كوننا مختلفين؟ أليس الله - جل وعلا - في محكم كتابه قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّة واحدة. وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ. وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} (هود). فعلامَ نقرر باسم العقل أن اختلافنا في الفكر وفي الثقافة وفي وعينا المجتمعي هو مؤشر رفض وإقصاء لنا لدى الآخر أو له منا كما هو ملاحَظ في كثير من حواراتنا التي تنتهي بصدع التنافر؟ ما الذي نفتقده في كينونتنا الثقافية وبنيتنا النفسية لنستمتع باختلافنا؛ فلا يكون وبالاً علينا، أو وسيلة تدفعنا للتواري بعيداً عن النقاشات والجدالات التي تدحر الذات في قعر اللا تفاعل حتى لا تخسر المزيد، وحتى أيضًا لا نضطر للذوبان في الآخر بحثاً عن رضاه، أو هرباً من غضبه، أو انبهاراً فيما أتى به وانهزاماً داخلياً بسببه؟ باختصار يا سادة، مهما أعلنا النوايا الحسنة نحن نفتقد قيمة إسلامية إنسانية لا مثيل لها في دفعنا نحو أفق حرية فسيح، إنها التسامح، وفي أبسط تعريف اصطلاحي لها هي قبول الآخر على ما هو عليه ولن يتم ذلك إلا بنبذ إصدار الحكم، ذلك الحكم اللازم لكل عقلية جُبلت على تمجيد ذاتها، وما ينتج عن هذه الذات من سلوك وقول، ورفض كل ما هو مختلف عنها في تصور عميق أن هذا الاختلاف هو هجوم على ذاتها. نحن نفعل ذلك دون وعي منا بالآفة الحقيقية وراء هذا الرفض والصدام لمجرد أننا مختلفون. بل إننا نتشارك ليس في رفض الاختلاف فقط، ولا في إصدار الحكم، بل نتقبل بشكل ضمني تشعُّب تفسيرنا للاختلاف منطلقين جميعاً لنتقصى أسباب الاختلاف من جوانب عدة، نجد أنفسنا نلعب فيها دوراً فاعلاً؛ فنتقمص شخصية المحلل النفسي حيناً؛ لنطلق الأحكام جُزافاً حول من هو هذا الذي اختلف عنا؟ وما هي شخصيته؟ ما أسباب هذا السلوك المختلف؟.. نتقمص شخصية السياسي فنضرب أسداساً بأخماس زاعمين أن خلف الأكمة ما خلفها، وأن القضية أمن فكري أو نزاع مجتمعي يهدد أمة؛ ويقضي على شعب. قد يتقمص آخر دور المصلح الاجتماعي، أو المنظِّر الفكري، أو الواعظ الديني؛ فيصبح الحكم عليك انطلاقًا مما تم نقاشه. هو قرار يلزمك بخط رجعة؛ لتصلح ما أفسده منطقك المعوج في نظرهم. التسامح مع الذات نحتاج جميعاً بلا استثناء إلى أن نتقن فن التسامح؛ وذلك يستدعي أن نبدأ من حيث انتهى بنا المطاف للذات بعد أن أصدرنا حكماً على أحدهم، واحتفظنا به داخل عقولنا.. سكن خواطرنا التي خسرت هدوء البال، وسمَّم مشاعرنا؛ فبتنا نكاد نردد «لا مساس».. الذات - إذن - هي أولى من الجميع بخلق التسامح.. سامح ذاتك على فلتات انفعالاتها، على أخطائها.. اجعل الآية {وَخُلِقَ الْإنسان ضَعِيفًا} النساء/ 28 نُصب عينيك وأنت تعالجها بالتسامح. راقب ما يعتمل داخلها من أفكار، هل منبعها إطلاق الحكم على الذات وتقبُّل ذلك القصور الإنساني الذي وُلد معنا منذ الطفولة؟ إنه أمر حتمي، لا مناص لنا منه؛ وقبوله مدعاة لتحسينه، ثم الاستزادة من المهارات التي تحقق التوازن داخلنا. حين تفعل ذلك فأنت في طريقك إلى أفق أكثر تسامحاً؛ إذ إنك لن تدرك أهمية التسامح كبلسم لذاتك حتى تجرب أولى جرعاته؛ وهذا يعني أنه علاج للفيروسات التي تسللت لخلايانا حتى مدت رأسها بقوة؛ لندرك أننا صرعى لأمراض نفسية وجسدية أيضًا، قد تكاثرت بسبب إصدار الأحكام على ذاتنا، فما بالكم لو كان الحكم على سواها مما يقتضي ردود فعل منا، أهونها الانقباض من الأعماق عند رؤية الآخر.. التسامح مع الآخر إنَّ فكرة التسامح تعني القدرة على تحمُّل الرأي الآخر، والصبر على أشياء لا يحبها الإنسان, ولا يرغب فيها.. بل يحسبها أحياناً مناقضة لمنظومته الفكرية والأخلاقية؛ ذلك أن قبول مبدأ التسامح وفكرة التعايش يعني تجاوز سُبل الانقسام الذي يقوم على أساس الدم أو الرابطة القومية أو الدين أو الطائفة أو العشيرة أو غيرها من الناحيتين النظرية والأخلاقية على أقل تقدير. إن مبدأ التسامح يعني التعايش على نحو مختلف، سواءً بممارسة حق التعبير عن الرأي، أو حق الاعتقاد، أو حق التنظيم أو الحق في المشاركة السياسية. كذلك هو المحور في فكرة حقوق الإنسان التي تطورت منذ الثورة الفرنسية عام 1789م، وقبلها الدستور الأمريكي عام 1776م، وذلك بتأكيد حق كل فرد بأن لا يكون هناك قيد على حريته إذا احترم حريات الآخرين وحقوقهم، ولم يعتدِ عليها. ونقيض فكرة التسامح هو اللاتسامح، أي التعصب والعنف ومحاولة فرض الرأي ولو بالقوة (2). دلالة المفهوم وتاريخيته تؤكد دلالات مفهوم التسامح الشائعة والمعاصرة معاني أوسع بكثير من المعنى الديني المحدد الذي ارتبطت به في أصل نشأتها؛ إذ كان فعل (تسَامحَ) متداولاً منذ زمن طويل في معرض الحديث عن الحرية الدينية، لكنه خرج من جلباب الدين إلى الأفق المدني، وارتباطه في الأفق الأخير بالعديد من الدوائر المتشابكة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً وإبداعياً.. والنتيجة أن أصبحت دلالات التسامح قرينة حق المغايرة والاختلاف بوصفه حقاً أساسياً من حقوق الإنسان، وحقيقة راسخة من حقائق الوجود.. وأصبحت دلالات التسامح أكثر اتساعاً في مجالات ممارساتها، وأكثر تنوعاً في توازي دلالاتها، وخصوصاً تلك التي تشير إلى تقبُّل وجود الآخر المختلف ومجادلته بالتي هي أحسن، والانطلاق في المجادلة من مبدأ المساواة الذي لا يرى (الآخر) أدنى أو أقل؛ لأنه (آخر) مختلف أو مغاير. وتجمع قواميس اللغة ومعاجم الفلسفة والسياسة التي تقدم مفهوم التسامح بمعناه الأخلاقي على أنه موقف فكري وعملي، قوامه تقبُّل المواقف الفكرية والعملية التي تصدر من الغير، سواء كانت مواقفه مخالفة للآخر، أي الاعتراف بالتعدد والاختلاف، وتجنب إصدار أحكام، تُقصي الآخر. بمعنى آخر التسامح هو احترام الموقف المخالف (3). والتسامح مفردة لاتينية الأصل، بدأ التداول بها في القرن السادس عشر، واستخدمها قدامى الأدباء الكلاسيكيين. وهي تعبر عن معنى (القبول) أو (التحمل) المتصل بحرية المعتقد. إن الاختلاف الذي يعتبره البعض مصدراً للخطر يستطيع أن يكون بفضل الحوار مصدر فهم أعمق لسر الوجود الإنساني (4). التسامح إسلامياً لم يرد ذكر التسامح لفظاً في القرآن الكريم، لكن الشريعة الإسلامية ذهبت إلى ما يفيد معناه. وقد جاء بما يقاربه أو يدل على معناه حين تمت الدعوة إلى التقوى والتشاور والتآزر والتواصي والتراحم والتعارف، وكلها من صفات التسامح، مؤكدة حق الاختلاف بين البشر، وإن كان لا يلغي الائتلاف. إن كتب اللغة ومعاجمها المعتبرة التي استعان بها الكثير من مفسري القرآن تضع مفردة التساهل مرادفاً لمفردة التسامح. ويشير ابن منظور في لسان العرب إلى التسامح والتساهل باعتبارهما مترادفين. ويعرف الحنيفية السمحة ب»ليس فيها ضيق أو شدة». ويقول الفيروز أبادي في القاموس المحيط: المساهلة كالمسامحة، وتسامحوا - تساهلوا، وتساهلوا - تسامحوا، وساهله - ياسره. ولهذا فإن الأصل في الإسلام هو التسامح، وقد كان رسالة عالمية منفتحة {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} (الأنبياء 107)؛ وهو ما يدل على السلم والمسالمة والصلح والرحمة. وبالعودة إلى القرآن الكريم الذي يشكل المرجعية الأساسية للشريعة الإسلامية، إضافة إلى السنة النبوية، فإن متابعة بعض آيات القرآن تعطينا صورة مشرقة ومتقدمة لجهة التسامح الذي اعتمد عليه الإسلام من خلال وثيقته الأولى. أكد القرآن الكريم في آيات كثيرة اختلاف الشعوب والقبائل {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس 99)، {فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر} (الغاشية 22)، {إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنت عليهم بوكيل} (الزمر 41)، {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (العنكبوت 18). إن هذه المنطلقات الفكرية التي وردت في القرآن الكريم أعطت زاداً فكرياً ونظرياً لممارسات إسلامية متقدمة، وخصوصاً في عهد الرسول والخلفاء الراشدين من بعده، لدرجة كبيرة بشأن اعتماد التسامح، وخصوصاً أنه قد وردت تطبيقاته في العديد من الوثائق النظرية والاتفاقيات والمواثيق السياسية. كما أنها شكلت نقيضاً لممارسات أخرى لا تتسم بالتسامح باعتبارها خروجاً وتعارضاً مع هذه النصوص المقدسة، وخصوصاً القرآن الكريم والسنة المحمدية بعد الكتاب (5). وخاتمة ما بدأنا الحديث حوله عن التسامح أنه سلوك إنساني، يحقق مبدأ العيش في سلام، وترك الآخرين يحيون بسلام دون تصارع بينهم باسم الدين أو المعتقد. الهداية والبصيرة من الله الوهاب، لا نملك منها شيئاً لنوزعه على أنفسنا، فضلاً عن غيرنا ممن نختلف معهم. فنتقبل اختلافنا لنجد بيننا قنوات مرنة للتعامل وللحوار دون أن يكون ذلك وبالاً علينا، ووسيلة لشق صفوفنا، وجلب الفُرقة بيننا. ... ... ... مراجع (1) القرآن (2) عبد الحسين شعبان (فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي) - 2005. (3) محمد عابد الجابري (قضايا الفكر المعاصر) - 1997. (4) (التسامح والتاريخ) ثناء عطوان - مجلة دبي الثقافية - العدد 62 / 2010. (5) http:/ / aafaqcenter.com/ index.php/ post/ 1898 ** **