فجعت صبيحة يوم الثلاثاء 21 صفر1440 بفقد قطعة من قلبي والدي وحبيبي الغالي الأستاذ الأديب المؤرخ عبدالله بن حمد الحقيل بعد مرض لم يمهله طويلا ولم يترك لنا مساحة كافية لاستيعاب الفقد، فرثاه الوطن والمجتمع والساحة الثقافية والأدبية بحزن وكلمات معبرة صادقة خرجت من القلوب لتلامس القلوب. فالفقيد كما أجمعت الشهادات فقيد روح. تميز رحمه الله بحسن الخلق وعفة اللسان وسلامة الصدر وصفاء القلب وكلها صفات ترتقي بالإنسان لمرحلة إنسانية سامية تجعل روحه تسابق جسده فتستقر سلاما لكل من تقابل. فيندر أن تجد شخصا يقابله فلا يحبه... كنت أرى ذلك من صغري وأرى له سحرا خاصا يأسر كل من يقابله. فتعلمت منه أعظم درس في بشاشة الوجه وسحر الابتسامة. أجمع الكثيرون بوصفه تربويا متميزا لما قدمه للساحة والوطن من كتابات ثرية وجهود تربوية. لكن لربما غاب عن البعيدين كيف كان عبدالله الحقيل تربويا متألقا في منزله شديد الرحمة بزوجته وأبنائه، بذل نفسه بكل كرم لهم ولتعليمهم ولتنشئتهم مقدما إياهم على نفسه، نشأ يتيم الأم حيث فقدها في السادسة من عمره وتغرب طفلا في العاشرة لطلب العلم بعيدا عن والده وأسرته، ليلتحق بدار التوحيد بالطائف، فما عابه اليتم ولم يترك قسوة في طباعه مخالفا المقولة الشهيرة : فاقد الشي لايعطيه. كنت عاشقة معجبة بأبي ملاصقه له من صغري.. كنت أحب أن أقلده فاتخذت لي مكتبا على الأرض تحت مكتبه وتحديدا تحت كرسيه.. وجهزته بالأقلام والأوراق وأمر أن لايزال تشجيعا لي ودعما ولم ينهرني يوما رغم أنني كنت أزعجه.. وكان يوكل لي بالمهمات فيعطيني أوراقا ومقالات ومسودات لأعيد كتابتها وكنت أصدق وأطيرا فرحا أن أبي يحتاجني.. فأجتهد وأحسن الخط وكان يرسل بعضها للطباعة في الجرائد أو المجلات فتغمرني السعادة والفخر.. وحينما كبرت فهمت درسا عظيما من دروسه التربوية يختصر كتبا ومقالات كتبت في تربية الأبناء حيث كان مربيا بالفطرة... زرع فيني وأنا في ذلك العمر المسؤولية والثقة (إن كان بي خير فمنه بذوره... أعطى وعلم شاهدة أفعاله). كان يشجعنا على القراءة ويكافئنا عليها، وكنت أرى مكتبته الخاصة هي ملاذه الأجمل له، وكنت أراه كثير القراءة يستمتع بقراءة كل مايقع تحت يديه، ومن ولعه بالكتب كان حتى تسوقنا الأسبوعي لشراء احتياجات المنزل لابد أن يختتم بزياره ركن المجلات هناك كمحطة ثابتة ننتظرها بشغف أنا وإخوتي لنتسابق في تصفح مجلات الأطفال المصورة ونحصل على نصيبنا الأسبوعي منها، فتعلمت أن القراءة شغف ومتعة لاتضاهيها متعة. أما تعامله مع الضعفاء والمساكين والعمال والخدم فكان مدرسة سامية في التواضع ولين الجانب والعطف... كان يحسن إليهم إحسانا عظيما أتعجب منه... فيبادرهم بالكلمة الطيبة والسلام والسؤال عنهم وأحوالهم وبلادهم ويوصينا دوما بالإحسان إليهم والتغافل عن أخطائهم وزللهم..فكان درسا آخر عظيما سطره لنا.. التواضع والإحسان إلى المساكين .مذكرني بدعاء سيد الإنسانية (اللهم إني أسالك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين). كان شديد الاهتمام بالأطفال والصبر عليهم ويهتم بتشجيعهم ، يستقبل أبناءنا بحب ويسألهم عن مدارسهم وأصحابهم ومعلميهم ويشجعهم ويطلب منهم أن يتحدثوا عن يومياتهم وماحفظوا من القرآن أو الشعر ويكافئهم عليه.. فكان الأحفاد يتسابقون لحفظ الشعر وإعداد الإذاعات لتقديمها له وكان ينصت لهم باهتمام وعناية وتشجيع وكأن مايقدمونه مادة مثيرة رغم بساطتها، فعن أي حلم ومدرسة لإعداد الخطباء تتحدث وأي عطفٍ وحنان على الصغار تشاهد. كان دائما ما يحدثنا عن تفاصيل يومه وعن أصدقائه، أخبارهم وصفاتهم ومواقفهم حتى أني أشعر أنني أعرفهم جميعا عن قرب وكأني أجالسهم وأحفظ أسماءهم رغم أني لا أقابلهم. كان خفيف النفس، لا يطلب شيئا من أحد ويقوم على خدمة نفسه، فلا يطلب حتى الماء ، نقول له أسعدنا بخدمتك وأطلب منا فيقول مادامت رجلي تحملني فالحركة بركة. كان له ورده اليومي من قراءة القرآن وصلاة الضحى وصيام النوافل، حريصا على الصلاة مع الجماعة حتى أن الله أكرمه أن لاتضيع له صلاة فكان أخوتي جزاهم الله خيرا يصلون معه الجماعة في غرفته في المستشفى في مرضه لعلمهم بحرصه على صلاة الجماعة، وفي يومه الأخير ومع اشتداد كربة المرض كان يسأل عن الصلاة ويطلب الوضوء حتى في ساعاته الأخيرة وشبه غيابه عن الوعي ، وكان شديد الحرص على عمل الخير والإحسان وكثير السخاء في الصدقات، فيلجأ إليه المكلومون لتفريج كربتهم فيسعد ولايتأخر ويحرص أن يخفي ذلك، ويحرص على صلة الأرحام وزيارة الأقارب وأصدقاء والديه واحبابهم ويكثر من مديحهم والثناء عليهم أمامنا، فترك لي دروسا عظيمة في أهمية إصلاح مابين المرء وربه.. كان رمزًا حيا للوفاء، لايجحد المعروف وإن صغر ، وكان كثيرا مايعجبني منه ذلك، فأتذكر قول الشاعر:»عش ألف عام للوفاء وقلما... ساد امرؤ إلا بحفظ وفائه»... يحفظ معروف كل من قدم له شيئا ويوصينا بذلك ويذكرنا به، ويقدم حسن الظن وكان أكثر ما يقول «ادفع بالتي هي أحسن» و«قابل الإساءة بالإحسان». أما آخر درس تعلمته منه، فتعلمته بعد وفاته، تعلمت أن البر والإحسان لايضيعان أبدا وأن صنائع المعروف تقي مصارع السوء... رأيت إحسانه في جميل إحسان الله له في حسن خاتمته، في دعاء الناس له، في جموع توافدت للصلاة عليه ومواساة أبنائه، في أقلام ضجت للكتابة عنه وذكر مآثره وجميل قلمه، رأيت وفاء الجميع معه بعد مماته والناس شهداء الله في أرضه وقد شهدوا له بالخير وعفة اللسان وبياض القلب وبشاشة الوجه ودوام الابتسامة، فهل يتأخر الإنسان بعد مارأى عن صنع سيرة عطرة له وذكرى طيبة تحيي ذكره بعد فراق هذه الدنيا. حباني الله بنعمة عظيمة جدا حينما اختارني لأكون متعلمة في هذا الصرح التربوي العملي العظيم لأنهل من عذبه وانهض بفكري من نوره، فقد كان مدرسة حقيقية في حسن الخلق والتعامل وعفة اللسان، محبا شغوفا للغة العربية ولأدبها، عاشقا للتاريخ، أسأل الله أن يجبر قلوبنا على كسر فراقه العظيم ،هو صاحب السيرة العطرة وزينة الحياة، فلابد أن يترك فراقه فراغا عظيما يصعب ملؤه، فوجوده كان ينشر جمالا وبهاء وبهجة في حياة كل من يعبرها، لكنها سنة الحياة، والله أسأل أن يجعل ما قدمه شاهدا له ومن الصدقة الجارية والعمل الدائم إلى يوم الدين وأن يرفع درجاته مع الأنبياء والصديقين والشهداء وأختم ماكتبت بختامه المفضل.. «والله ولي التوفيق» ** **