تنظر منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» إلى المتاحف على أنها تشكّل مركزاً للحفظ والدراسات والتأمل في التراث والثقافة والمعرفة، كونها مؤسسات ثقافية وتربوية وتعليمية وترفيهية واقتصادية تعمل على خدمة المجتمع وتطويره في جميع مجالات الحياة. هذه النظرة الشمولية من المنظمة العالمية تقودنا إلى التركيز على الجهود النوعية التي تبذلها الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني بالمملكة لاستعادة الشخصية الثقافية والمعرفية للمتاحف ووضعها على المنصة الحضارية للمدن السعودية من خلال إكسابها دوراً رئيساً في منظومة الحياة الإنسانية، الأمر الذي يعتبر في غاية الأهمية من أجل إحداث نقلة نوعية في ثقافة العلاقة بين سكان المدينة وتاريخها وحضارتها ومصادرها المعرفية، والتي يُعد المتحف هو عنوانها الرئيس، من أجل بناء مدن للمستقبل. المتحف هو جسر الثقافة، ورئة المدينة، وقلبها النابض، وملتقى الناس، والمكان الذي تُصنع فيه ذاكرة المكان والزمان، وتُشكل من خلاله الصورة الذهنية عن حياة الشعوب وتراثها الإنساني والطبيعي. لم يعد المتحف تلك الزاوية المختبئة في ردهات المدينة لحفظ الآثار القديمة، والتحف النادرة، والمنحوتات واللوحات الفنية فحسب، بل هو «المكان الأول» في أجندة التنمية الحضرية داخل المدينة، وقطب تنمية داخلي تُبنى عليه العديد من سياسات التخطيط والتطوير، بالرغم من أن مدن سعودية عديده لم تراع تلك الأهمية في مخططاتها المحلية والتفصيلية وأغفلت دور المتحف كموّلد تنموي، ولم تستثمر وزنه النسبي كأحد ممكنات المدينة الرئيسة. لقد آن الأوان أن تتبنى أمانات المدن وهيئات تطويرها وبلدياتها دوراً مسؤولاً تجاه مراجعة أسلوب تعاملها مع مواقع المتاحف وكفاءتها الوظيفية، والنظر إليها كجزء رئيس من جسد المدينة ومنظومة تطويرها ومرافقها وبنيتها التحتية، و تصنيف البيئة المحيطة بها كحيزات عمرانية ذات نمط استخدامات أراض خاص، فإعادة تأهيل تلك الفراغات المتاخمة للمتاحف باتت ضرورة حتمية، وكذلك العمل على أن تكون هذه المناطق المفتوحة مرنة ومؤهلة للاستثمار والشراكة، والأهم من ذلك أن تراعي إدارة المدينة ربط هذه المواقع بطرق رئيسة واضحة المعالم، وإدراجها ضمن شبكة القطارات وخطوط النقل العام لتمكين سهولة الوصول منها وإليها. من معايير المدن الإنسانية قدرتها على إيجاد أماكن «جاذبة للناس»، والتجربة تقول إن هؤلاء الناس لن يعتادوا مكاناً إلا ذا قيمة مضافة لهم، تشجعهم للذهاب إليه والعودة من جديد، لذلك فإن خلق «مجتمع عمراني» متكامل داخل متاحف المدن ومحيطها العمراني يمثل متطلباً رئيس لتحقيق معادلة التفاعل بين الإنسان والمكان، والمدينة وسكانها، وهذا لن يأتي بجهود قطاع بعينة، بل هو ناتج عمل مؤسسي جماعي، وسياسات موحدة لكافة عناصر الإدارة المحلية على مستوى المدينة لضمان تأسيس منظومة مستمرة ومستدامة وذات أهداف علمية ومعرفية وثقافية وتعليمية وترفيهية وأخرى اجتماعية. إذا ما أردنا أن تكون مدننا تفاعلية وتحفيزية و»كائناً حياً»، فيجب أن نقف جميعاً مع ذلك المشروع الطموح الذي تعمل عليه الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني حالياً بهدف تحويل المتاحف على مستوى مناطق المملكة إلى مصادر معرفة ومراكز حضرية قادرة على استعراض التراث الإنساني السعودي بتطبيقاته وبرامجه المختلفة، وتعزيز نظرتها إلى أن تكون هذه المتاحف تجربة سياحية متكاملة للعائلة السعودية بكافة أفرادها، ومقصداً للفعاليات بأنواعها، وصالوناً للنخبة من الأدباء والمثقفين والمفكرين والمؤرخين، وحاضناً لملتقيات الوطن. هذه الأهداف «المفعمة بالحياة» تستحق أن نمنحها مزيداً من الإنصاف والتفاعل والعمل المشترك.