منذ الستينيات الماضية (1962), قال «فرانك أوكونور» Frank O›connor الأيرلندي, وهو كاتب وأستاذ جامعي, يُدرس فن القصة: إن القصة القصيرة, هي صوت الفرد, وإن الرواية صوت المجتمع. ومنذ عصر الأمريكي «إدجار آلان پو» Edgar Allan Pou (1809 – 1849) والفرنسي «جي دي موباسان» Moupassan (1850 – 1893) تحدد مصطلح القصة القصيرة. وبدأ شكل القصة القصيرة, يتحدد ويتبلور بفضل كتاب تاريخيين, من أمثال «جوجول» و«تشيكوف» و«همنجواي» و«شتاينبك» وغيرهم من آباء ورواد هذا الفن. وبدأ الكتاب في كل عصر, يحرثون في هذا الفن. فأصبحنا نقرأ أشكالاً من القصص, تجوّز فيها كتابها بجرأة, نحو خلق أشكال من القصص. فلم تعد القصة ذلك الشكل الأدبي التقليدي, الذي يُقيد نفسه داخل نسق تركيبي ثابت ومتعارف عليه؛ ذلك الذي يرى أن تحتوي القصة, على مقدمة تعرض الحدث الرئيسي في القصة, ثم تُحاك العقدة التي لا بد أن تتصاعد, ثم تتجه إلى النهاية التي تربط الحدث أو الموضوع بالعقدة التي لا تظل مغلقة, بل لا بد من فكها. لقد تطور شكل القصة وبناؤها, ولم يعد لها شكل واحد ثابت, ولم يعد كاتب القصة مأسورًا بأحكام وأُطر ثابتة لا يتجاوزها, ولم يعد مقيدًا بمعالجة موضوعات دون أخرى, تحت أي سلطة نقدية قاهرة. فالعالم الذي يعيش فيه الكاتب هو ملك له, يحق له أن يضع هذا العالم بوعي؛ موضع التساؤل في حوار دائم. لكن يظل شكل القصة القصيرة وبناؤها, أكثر اكتمالاً ونضجاً؛ ذلك الذي يحافظ على وحدة موضوع القصة ومقوماته من لغة, ووصف وحوار وسرد. وتبرز قيمة كاتب القصة وتميزه في قدرته على امتلاك هذه المقومات, واكتشافه لمقومات تخصه هو وتميزه, فيصبح كاتب القصة, أشبه بالمخترع, يخترع أساليبه واكتشافاته وحيله, دون أن يضحي بالمقومات الأساسية لفنه الذي يحرث فيه, وهو قريب الشبه بالرسام التشكيلي, والمصور الفوتوغرافي. اللوحة التشكيلية كما في الصورة الفوتوغرافية؛ تُعبر عن موضوع واحد وإن تعددت مكوناته التي تبرز مقوماته, والموضوع في اللوحة هو الحدث في القصة. في مجموعته القصصية الجديدة «المنبر» (رياض الريس للكتب والنشر, بيروت 2017) يتخلى عبدالله الناصر عن تلك الزخارف, والتكلف الذي تعاني منه بعض القصص القصيرة, التي تحاول أن توهمنا بأنها تنطوي على شيء من الإبهار والإعجاز, بينما يُعتبر هذا في نظر النقد المعتدل نوعًا من العجز الفني, لأن الاتكاء على حذلقة التكنيك يبعد الفن القصصي عن هدفه الأساسي. ومن أوائل هذه الأهداف البساطة والإشراق في اللغة, وتسلسل الأحداث, واختيار القالب الأمثل لموضوع القصة. معظم قصص هذه المجموعة -إن لم يكن جميعها- تغرف من معين القرية؛ القرية بمزارعها ومواشيها وأهلها البسطاء الأصلاء. وعبدالله الناصر واحد من هؤلاء, طوف في مدن الدنيا القديمة والجديدة, وعاش تجارب شتى, لكنه لا يزال مرتبطاً بالقرية والمزرعة. والملاحظ أن عبدالله الناصر, في هذه المجموعة القصصية, ابتدع أنماطاً فنية من الحيل والاستعارات الساخرة, من داخل الحياة في القرية. وظف معظم مناحي الحياة في القرية لتعبر عن رؤيته الفنية. والحدث أو الموضوع في معظم قصصه, يتكئ على نماذج من الشجر والدواب والحيوانات, ونماذج بشرية لها حضورها المتفرد عن غيرها في القرية, ويوظف ذلك فنياً عبر استخدامه للعنصر «الفانتازي» مقترناً بنمط «المفارقة» بأنواعها و»الأمثولة». وهذا الاتجاه الفني, منح معظم قصص المجموعة, عنصرًا عجائبياً وأسطورياً, أفضى إلى صنع عالم قصصي مختلف, خاصاً به, محتفياً بكل جماليات القص عبر توصيل لغوي لا تعقيد فيه, وبناء في الشكل يتضامن مع المضمون, وهو في كل ذلك, لا يدعي أنه يقدم حلولاً وإجابات, على كثير من التعقيدات, وجزءًا من السؤال. هذا الاتجاه الفني الذي ابتدعه عبدالله الناصر, أتاح له التحرك بحرية فنية, دون قيود في كل المحذورات, فقد تصبح هذه المحذورات التي يُمررها عبر رؤية داخلية, مجرد سخرية أو فكاهة فولكلورية, لكنه في معظم قصصه, عبر مستويات من المفارقة والفانتازي والأمثولة, تتشابك وتُعبر عن أنماط ومدلولات اجتماعية, سعى إلى تعرية سلبيات هذا الواقع, وإثارة التساؤل عن مدى وجاهته ومشروعيته, دون أن يتدخل في تقديم الحلول, لأن ذلك سوف يبعده عن الخطابة والتقرير والمباشرة, وهي مثالب ينفر منها العمل الفني, بل وتفسده. وسوف نجد في هذه المجموعة؛ قصصاً تمثل هذا الذي نعنيه, مثل قصتي «الواعظ» و»المنبر». واستخدام الرموز من الحيوانات والدواب والطيور, هو من الصيغ الأدبية, التي يُطلق عليها «الأمثولة» Allegory, المجاز والمرسل, وتُطلق على القصص الرمزية التي تحمل معنى ظاهرًا سطحياً, يكشف عن معنى باطني مقصود, ويطلق التفسير الأمثولي؛ على نوع من التفسير يحرص على إقامة توازٍ بين المستوى الظاهر, والمستوى الخفي المكافئ له. (انظر: معجم مصطلحات الأدب, ج2, ص 27, مجمع اللغة العربية, القاهرة 2014). والفانتازي Fantasy, عند بعض الباحثين ونقاد الرواية والقصة, ومنهم «نجاة علي» و»شعيب حليفي» هو «شكل تعبيري يستخدم لتفسير التجربة, وتكسير الرتابة التي تهيمن على ذائقة القارئ, وذلك بخلق غرابة مقلقة». وتنقل «نجاة علي» عن «حليفي» ما ذكرته «إرين بسيير» «أن الفانتازي (الفانتاستيك) ينبني على المفارقة والتناقض وسط انسجام لغوي أسلوبي, وأنه ليس نوعاً عقلياً, ولكنه خاصة سردية» (نجاة علي, المفارقة في قصص يوسف إدريس, ص ص135, 136, المجلس الأعلى للثقافة, القاهرة 2009). ويُعرِّف «تودروف» Tzvetan Todorov (1939 – 2017) الفانتازي (العجائبي) بأنه: «التردد الذي يحسه كائن لا يعرف غير القوانين الطبيعية, فيما يواجه حدثاً فوق طبيعي حسب الظاهر». وبين ما هو «فانتاستيك وعجائبي», يشير «شعيب حليفي» إلى أن تودروف قد اقتنص سؤال العلاقة «علاقة الفانتاستيك بالعجائبي والغرائبي», بشكل واسع, وأنه استطاع أن يتوصل إلى إيجاد صيغة فانتاستيك خالصة تتوقف على التلاحم بين تأويل طبيعي, وتأويل فوق طبيعي. وعندما يكون هناك تفسير فوق طبيعي, نكون في الغرائبي, وعلى العكس, عندما نُلزم بقبول ما هو فوق طبيعي, نكون في العجائبي. فالفانتاستيك يميل أكثر نحو العجائبي (عن نجاة علي, ص 136, مرجع سابق). وتُعبر قصص عبدالله الناصر, في هذه المجموعة, عن هذا المنحى الفانتازي العجائبي والغرائبي, حينما يتعمد اختراع شخصيات تبدو في تصرفاتها فوق ما هو طبيعي, وفي أحيان استعارات خيالية. فيثير فينا الدهشة والغرابة, ويدفعنا إلى احتمالات تبني تفسير المتخيل فوق الطبيعي نحو تلمس تفسير الطبيعي المتخفي تحت شفرات الفانتازي والعجائبي والغرائبي, وهو ما تُعبر عنه مجموعة من القصص مثل: الحلية, أسراب الدجاج, رؤيا, الذيل, رأس الأسد, ومرثية بغل. أما المفارقة, فقد توسع بعض الباحثين في تعريفها, لصعوبة وضع تعريف محدد للمفارقة. ويعترف «ميوك» Muecke, وهو واحد من دارسي المفارقة البارزين, بصعوبة تعريف هذا المصطلح, البسيط, ومع ذلك ذكر من أنماط المفارقة, المفارقة اللفظية, مفارقة التنافر البسيط, مفارقة الأحداث, المفارقة الدرامية, مفارقة خداع النفس, مفارقة الورطة, المفارقة الصريحة, المفارقة الخفية, المفارقة الخاصة, المفارقة اللاشخصية, مفارقة الاستخفاف بالذات, المفارقة الساذجة, والمفارقة الممسرحة (نجاة علي, المرجع السابق, ص ص 57– 66). ويمكن أن نختصر تعريف المفارقة على النحو التالي: المفارقة: معنى لغوي بلاغي, يذهب إلى معان مُتعددة, وهي تعتمد على قوة التوتر بين المعنى السطحي والمعنى المضاد له, في تعبير انتقادي تهكمي؛ في المعنى المأخوذ عن اليونانية Paradox. والمفارقة الضدّية هي الأكثر شيوعاً في متون الأدب. أما المفارقة في مفهومها ومعناها الواسع المستلهم عن الكلمة اللاتينية Irony فهي تتبنى معنى التضاد في التعبير بين المعنى المباشر, والمعنى الضمني غير المباشر, وتتبنى صيغاً من أساليب التهكم والسخرية التي تصل إلى مستوى الازدراء. وتتعدد أنماط المفارقة لتشمل أشكالاً وأساليب مختلفة منها مفارقة النغمة, المفارقة اللفظية, مفارقة الحكاية والإيهام, المفارقة البنائية, مفارقة الإلماع, مفارقة المفهوم أو التصور, مفارقة السلوك الحركي. على نحو ما يذكر «محمد العبد» في كتابه «المفارقة القرآنية». وينقل «محمد منصور أبا حسين» عن «كلنث بروكس» Cleanth Brooks: أن المفارقة الضدية (Paradox) هي لغة الفكر والصلابة والبراعة وسرعة الخاطر. وربما نستخدمها في التعبير عن حكمة بارعة, أو في الهجاء أيضًا (Satire). إن هذا التحيز للمفارقة الضدية, يدفعنا إلى اعتبارها نتاج العقل لا العاطفة, والحذق لا التعمق, والمنطق لا الحدس» (محمد منصور أبا حسين, ترجمات ودراسات حديثة لنصوص مملوكية وعثمانية, ص 99, «كلنث بروكس, لغة المفارقة الضديدة», دار المريخ للنشر, الرياض, 2006). تتشكل تجربة عبدالله الناصر, في معظم كتاباته من مصادر مختلفة منها: 1 - مخزون تراثي متنوع, من عصور مختلفة. 2 - قراءة واعية للمنتج المعاصر؛ عربي وعالمي في مختلف مناحي الإبداع. 3 - إرث ذاتي, مرجعيته الذاكرة, مصادره الحياة المبكرة في القرية والمزرعة لا تزال محفورة في وعيه؛ ولطالما رشحت ملامحها, بل وصورها التي لا تزال زاهية موحية. وهذا سرّ احتفاله في معظم قصصه بهذا الإرث, الذي يُعتبر محركاً موحياً لأحداث, تأخذ صيرورتها من أصالة الماضي ومعاصرة الحاضر. ويتضح ذلك في حكاياته وسردياته في كتاب «من أحاديث القرى». 4 - مخزون تراثي شعبي, يتمثل في حكايات متناقلة عبر العصور, وهي كإرث إنساني تمتاز بمرجعيتها الواحدة, عبر تنوعات في الحكي, وطريقة سرد الحكايات. هذا التراث بمثابة المنجم, يغرف منه المبدع كما يشاء؛ في طواعية مذهلة تلبي طرائق مختلفة من أساليب الإبداع. وتعتبر القرية حاضنة لهذا الموروث أكثر من المدن. 5 - لغة متميزة, مصادرها مختلفة, تُنميها ذاكرة حافظة, للمروي والمدون من التراث الشعري العربي عبر عصوره المتتالية. وفي هذا الصدد, تنبهت «سلمى الخضراء الجيوشي» إلى هذه المرجعية –وهي ناقدة واعية مهمومة بالأدب العربي المعاصر؛ ومترجمة, وهبت ترجماتها لكي يصل الأدب العربي للغرب– كتبت تقول: «عبدالله الناصر متمرس جدًا بالأدب العربي الكلاسيكي, ولهذا فإن ثراء الحكايات والمرويات التراثية, التي هي في حقيقتها قصص قصيرة من النوعين الفني والوقائعي؛ خلّف أثرًا بيناً عليه, وعلى كتاب آخرين» (الجزيرة الثقافية, مايو 2004). وأولى قصص هذه المجموعة, في بساطتها وشفافيتها, يتضح فيها أسلوبا المفارقة الضدية, والمفارقة الساخرة, وهي تُعبر عما يعانيه النقد والنقاد من عورات مزمنة, تكشف عن ذلك الادعاء, وقصور ذائقة التذوق الفني, وانعدام حاسة التلقي, والاحتماء خلف عبارات ومصطلحات ليس لها صلة بالعمل الفني, وإنما هي جمل استعراضية, توهم بالأهمية, لكنها في حقيقة الأمر تزيد من تعقيد وانغلاق فهم العمل الإبداعي. وإذا كانت مهمة النقد الأولى هي تفسير العمل الفني, وإبراز مواطن الإبداع فيه, فإن كثيرًا من النقد -وقد استعصى فهمه على القارئ العادي- يحتاج إلى تفسير. والقصة وهي بعنوان «جثة الحمار» كشفت عن أن كثيرين ممن يتصدون لنقد الإبداع, لم يقرأوا العمل الذي يتحدثون عنه. لقد كشفت نقطة واحدة حدثت خطأ في بطاقة الدعوة, جهل جميع من تصدوا بالمديح والثناء على رواية لم يقرأوها. حيث ظن جميع من تحدث عن رواية «كامل الممدوح» في مهرجان تكريمي, بمناسبة صدور روايته الجديدة. (ونلاحظ أن له من اسمه نصيبًا في هذه الأمسية, وهي أيضًا مفارقة لفظية وضدية). أن عنوان الرواية «جثة الحمار», وأخذوا يُطنبون في المديح على رواية «جثة الحمار», وأنها هي العسل المصفى, بل ويدعي أحدهم «أن الرواية تتحدث عن النتن. وجثث الحمير» رمز عن الفساد الفكري, والبغاء السياسي. فالحق أن لها رائحة الورد والياسمين..» ويتحدث أحد الروائيين مبدياً أن لغة الرواية, قد أبهرته, وأن خيالها البارع قد سحره. وقدرة الروائي على التغلغل إلى النفس الإنسانية ببساطة لا يجيدها إلا العمالقة الأفذاذ. وحتى الفيلسوف الذي منحه الكاتب اسماً يتناقض مع حقيقته, فاسمه «عقل ثابت» وتأخذ المفارقة مداها حين نكتشف أن هذا الفيلسوف, لا عقل ولا ثبات له. وفي مداخلته يحرص أن يأتي بجمل وعبارات توهم أنه فيلسوف حين يقول: «إن الرواية تعانقاً مع الوجود بالركون إليه, ثم الانعتاق منه, فالارتداد إليه مرة أخرى في البحث عن البديل المغاير. إنها رواية تنتمي إلى الزمن اللولبي المتحرك». ولكننا لا نفهم من هذه العبارات, إلا أنها من زمن لولبي لم نعايشه بعد. لكن رئيس اتحاد الكتاب, في نهاية مهرجان المديح, يكشف عن مفاجأة مدوية, حيث يكشف للحضور, ولكل من تحدث أن عنوان الرواية الحقيقي هو: «جثة الخمّار» وليس «جثة الحمار». فقد سقطت نقطة الخاء في بطاقة الدعوة, وهي التي قرأوها فقط. لقد كشفتهم نقطة واحدة في مفارقة ساخرة. هذا المحتوى العجائبي للحدث, وهو أسلوب من أساليب الفانتازي, أمعن في تعرية هذا الادعاء المزيف, وربما حقر من التضخم الذاتي المستعار المنطوي داخل النفوس, وجعلنا ننفر من هذه الازدواجية المستعارة لدى هؤلاء الأدعياء المنافقين.