في أحد أيام عيد الفطر السعيد لعام 1435 كان القنصل الأمريكي السابق في الظهران (مايك هانكي) يزور عنيزة في جولة سياحية خاصة، وكان قبلها يسألنا كثيرًا عن الأكلات الشعبية النجدية رغبة في اكتشافها، ولكن يبدو أن شرحها نظريًّا لم يشفِ غليله ونهمه للتراث السعودي؛ فكان لا بد من تقديم وجبة مطازيز لذيذة له. لذا حل ضيفًا على مطازيز (أم علي) في دارها في عنيزة بعد أن استضافه ومرافقه (زوجها ابن العم محمد العلي الخويطر) -رحمهما الله-. لقد انتقلت أم علي (أختي نورة) إلى جوار ربها الرحيم في الأيام القليلة الماضية، وهي -رحمها الله تعالى- كبرى شقيقاتي الثلاث، وتصغرني بسنوات، ولكننا كنا نعتبرها أُمًّا لنا لعطفها وحنانها وحكمتها ورجاحة عقلها. لم تتخرج أختي نورة من مدرسة حديثة، ولكنها كانت تحمل عقلاً واعيًا، وثقافة عصرية، وبديهة حاضرة. وبمجهود شخصي حفظت أجزاء من القرآن الكريم حفظًا جيدًا بفضل الله، ثم والدتي التي كانت تتقن قراءة القرآن الكريم، فكانت البداية أن تعلمت أختي على يدها كتاب الله، ثم أكملت المشوار، فرحمهما الله تعالى جميعًا. طيب الله ثراك يا نور العين، وأعاننا جميعًا على فراقك. لقد تركتِ وراءك في حياتنا فراغًا هائلاً، الله أعلم بمداه. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا {إنَّا لهِه وإنَّا إليْهِ رَاجِعُون}. فكم كانت معاناتك خلال السنوات القليلة الماضية مع ما كتب الله عليك من المرض وصبرك ورضاك بقدره، فلم نسمع منك يا أختاه - ما شاء الله - أنينًا ولا شكوى لغير الله، كما هو شأن المرأة المؤمنة الصالحة الصابرة. وأحمدُ الله يا أختي الحبيبة أنكِ رحلت ونحن وإياك وجميع من كان حولك من الأحباب والأصدقاء والجيران على أتم أوجه المحبة والإخاء والصفاء والمودة منذ عهد الصبا حتى بعد أن كبرنا وألهتنا متطلبات الحياة، وكم كنتُ أهفو إلى لقياك عندما تطأ قدماي عنيزة؛ نستعيد فيها ذكرياتنا جميلة في كنف والدَيْنا -رحمكم الله جميعًا-. أما اليوم فسأحل في عنيزة ذات مساء ولن أجدك كما عهدتك باشة هاشة ذات الصدر الحنون والقلب الكبير.. فسلامي على قبرٍ ضمَّ ترابُه جسدَك الطاهر. كانت -تغمدها الله بواسع رحمته- إنسانة عفيفة كريمة، تبذل جُل ما لديها للمحتاجين والمعوزين، وتتفقد حال الجيران ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. كنتُ أدعو الله لأختي العزيزة بالغفران والعفو ونحن وقوف أمام جثمانها الزكي الطاهر، وأقول في نفسي: يا رب لا أزكي نورة عليك، ولكني أعلم يقينًا أنها إنسانة طاهرة القلب، صالحة النية؛ فلا تحرمها الفردوس الأعلى من الجنة مع أنفسنا ووالدينا وجميع المسلمين. أختي نورة هي كبرى شقيقاتي الثلاث، وتصغرني بسنوات، ولكننا كنا نعتبرها أُمَّنا كلنا لحسن خلقها، ومودتها لنا، وهدوء طبعها، ورجاحة عقلها. وأُشهد اللهَ أنني لم أفِ بحقها لقلة زياراتي لعنيزة. كانت تملأ بيت الأسرة حبًّا وحنانًا، وتخدم الصغير والكبير بنفس راضية، ومتعة رغم وجود المساعدة. تؤدي واجباتها التي فرضتها هي على نفسها، ومع ذلك فلا تسمع لها صوتًا نشازًا. كانت في معظم الأحوال تطبخ الوجبات الشعبية بنفسها، وبمهارة تفوق الوصف. وأذكر -على سبيل المثال- طبق المطازيز الذي تجيد إعداده، وهي أكلة شعبية لذيذة معروفة في معظم نواحي نجد. وللمصادفات دور في مناسبة لم تكن متوقعة.. ويكون القنصل الأمريكي السابق في الظهران «السيد مايك هانكي» ضيفًا على مطازيز أم علي في دارها في عنيزة -تغمدها الله بواسع رحمته-. وملخص القصة أن الرجل كان في زيارة لنا في الظهران، وسأل عن أمور كثيرة، من بينها الوجبات الشعبية المشهورة عندنا؛ فذكرنا له أنواعًا عدة، من بينها المطازيز، مع وصف مبسط عن طريقة تجهيزها ومركباتها الأساسية؛ فأبدى رغبة في تناولها وتجربة مذاقها في الوقت المناسب. وتدور الأيام، ويقوم السيد هانكي بزيارة قصيرة إلى عنيزة، ويصادف وجود أحد أبنائي هناك، فقابل الضيف الكريم، وكانت المطازيز أحد مواضيع الحديث؛ فعرض عليه استضافته في بيت عمته نورة -الله يغفر لها ويرحمها- أيام حياة زوجها محمد العلي الخويطر - رحمهما الله -. بعد أن عرض عليهما الفكرة رحبا بضيافته مع مرافقيه على وجبة المطازيز. وفعلاً تناولوا طعام المطازيز في اليوم التالي في منزل أبي وأم علي -رحمهما الله -، وأعجب القنصل الأمريكي أيما إعجاب بهذه الأكلة الشعبية اللذيذة. ويقدر الله أن يُتوفَّى أبو علي بعد ذلك بأشهر، ويبلغني خبر وفاته عن طريق رسالة تعزية خاصة أرسلها لي السيد هانكي نفسه في الصباح الباكر. وحتى اليوم لا أعلم كيف وصل إليه خبر الوفاة قبل أن يصلني أنا من مصادر العائلة. وقد سمعته في أكثر من مناسبة يذكر مطازيز أم علي اللذيذة -الله يرحمها- ويثني عليها. ولا غرو؛ فقد كانت فعلاً من جيل المطازيز الأصلي الذي سبق عصر الهامبورجر والأكلات الشوارعية (التي تؤكل في الشوارع). كانت -رحمها الله- تتميز بالإدارة الحكيمة لبيتها وأسرتها الكبيرة من أبناء وبنات، وعدد كبير من الأحفاد وزوجات الأولاد وأزواج البنات.. ما شاء الله تبارك الله. الله يكتب لهم الصلاح. ومع ذلك فلا تسمع لها صوتًا، ولا تحس منها بإزعاج.. ودائمًا الابتسامة على محياها؛ فتأثر بها كل من حولها.. كانت -رحمها الله- قدوة للخُلق الحسن واحترام الآخر. وحتى عندما تغضب من تصرف إنسان لا تبدي ذلك، بل تعرِّفه من نظراتها الهادئة، فتعرف أن هناك أمرًا ما يحتاج إلى تصحيح. وتلك قمة الحكمة أو حُسن التصرف. لم تكن أختي نورة من جيل المدارس الحديثة، ولكنها كانت تحمل عقلاً كبيرًا واعيًا، وثقافة عصرية متميزة. وبمجهود شخصي حفظت أجزاء من القرآن الكريم حفظًا جيدًا وهي لا تقرأ ولا تكتب؛ فزاد ذلك من متعة الحياة عندها. لن ننساك يا نورة، بل سنتذكرك بيننا نبراسًا نقتدي بك يا صاحبة القلب الكبير. ** **