كثيرة هي الجوانب الجديرة بالدراسة في جهد المفكر السعودي الدكتور سعد البازعي، فإسهاماته في مجال فهم الآخر، واستنهاض الذات، والأدب والأدب المقارن، تدل على أنه يملك إزميل فدياسٍ وروحًا عبقرية، ولكن سيقتصر هذا المقال على جانب صغير من هذه الجوانب وهو التأثُّر بالمسيري في مشروعه الفكري والتمايُز عنه في آنٍ. فضيلة الاعتراف: يحاول كثير ممن سمقت هامتهم أن يخفوا معالم تأثُّرهم ومنابع سقايتهم وقادحة شرارتهم؛ ظنًّا أن ذلك يزيد في هالة العبقرية والتفرد؛ مما يتعب الباحثين في اكتشاف مصادره وتأثراته، ولكن لا نجد ذلك عند الدكتور البازعي، فقد رصدت – فيما اطلعت عليه من إنتاجه- بوحه بقوادح ثلاثة لمساره: أولها وأقدمها: هو شوقي ضيف الذي كان سببًا في اختياره للتخصص في اللغة الإنجليزية ليكون معينًا على رفد الأدب العربي بروافد أجنبية؛ حيث أشار في أحد مؤلفاته إلى حاجة الأدب العربي لذلك، وكانت تلك الغاية الأولى التي سيتجاوزها فيما بعد. (مقاربة الآخر، ص8) ثانيها: كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، الذي كان سببًا في انتقاله من مجرد دراسة الأدب الإنجليزي بهدف رفد الأدب العربي إلى «دراسة الأدب الأجنبي للكشف عن جوانب قصوره في تناول الثقافات الأخرى». (مقاربة الآخر، ص8) ثالثها: المفكر عبد الوهاب المسيري (ت2008م) رحمه الله، وسيقف هذا المقال بتركيز شديد وإيجاز أشد مع هذا المؤثِّر؛ لأنه الأكثر حضورا في فكر البازعي. حضور المسيري:حظي المسيري بالذكر المتعدد المتعمَّد والعَرَضيّ في مؤلفات البازعي، ففي كتاب قلق المعرفة (ص59) أفرد للمسيري ثلاثة مقالات تحت عنوان «قلق المفكر»، هي:-تركة المفكر وواقع الثقافة-صورة شخصية للمفكر في اختلافه-المسيري وأشكلة المفاهيم. وأما عن الحضور العَرَضيِّ فهو كثيرٌ في مقدمات بعض كتبه كما سيظهر في التوثيقات التالية، ويمكن من خلال هذه المواضع أن نرتب علاقة فكر البازعي بالمسيري على النحو التالي: اللقاء الأول: سرد الدكتور سعد البازعي أكثر من مرة بداية علاقته بالمفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، وأنها كانت في غرف أعضاء هيئة التدريس في جامعة الملك سعود في أواسط الثمانينيات، وقد عمل المسيري في جامعة الملك سعود بين أعوام( 1983-1988م)، ولم يخفِ انطباعه الأولي الفاتر عن المسيري قبل أن يخبُره، ثم الصداقة التي قال عنها:»هي بلا مبالغة من أهم الصداقات التي عرفتها حتى الآن لجمالها من ناحية وعمق تأثيرها من ناحية أخرى». (قلق المعرفة، ص67) دورة حياة مثالية: القدرة على التشريح وتمييز الظواهر واستكناه كنهها هو أهم ما يميز المفكر، وقد استخدم البازعي مبضعه الفكري في مشروع المسيري، فرصد بداياته أو الشرارة التي قدحت فكره، ويعطيك خلاصة مشروعه بإيجاز، ومظاهر تميزه، ثم ينقده، ثم يبني عليه، ثم يثبت له الفضل، وهذه دورة حياة مثالية للمشاريع الفكرية التي يؤدي بعضها الشعلة لبعض؛ لإكمال البناء. 1 -رصد البدايات: ويرصد البازعي نمو مشروع المسيري بأنه بدأ بترجمات لكتب غربية ناقدة للمجتمع الغربي مثل»تاريخ الغرب» لكيفن رايلي، ويرصد الشبه الواضح بين أطروحات المسيري الأساسية وبين هذا الكتاب لا سيما في إبراز «كيفن» لمأزق الحضارة الغربية وأخطائها الكبرى تجاه الإنسانية، وتبنَّى المسيري بعد ذلك مهمة تطوير هذا النقد. (قلق المعرفة، ص73) 2 -الإحاطة التامة: قمة فهمك للشيء هي قدرتك على التعبير عنه بأوجز عبارة، وهذا ما حدث مع البازعي؛ حيث لخص مشروع المسيري الفكري بأنه سعى إلى «ترسيخ تناول نقدي لمشكلات الحضارة الغربية، وطالما تمنى إرساء دعائم علم جديد هو علم الأزمة تكون تأزمات الحضارة الغربية مرتكزا لبحثه». (قلق المعرفة، ص71) 3 - وجوه تميز المسيري: وبيَّن البازعي وجوه تميز المسيري ويمكن تحديدها في (انظر قلق المعرفة، ص69-75): أ- منهج التفكير في الأشياء المحيطة في التاريخ والحضارة والعلوم الإنسانية والعلوم غير الإنسانية أحيانًا، ويرى أنه لم يكن صاحب كم ضخم من المعلومات بل لديه ما هو أكثر من هذا أهمية؛ فلديه»الكيفية المدهشة والعميقة في استكشاف العلم وتقدير قيمته، فكأي واحد منا لن يستطيع المسيري أن يحيط بكل شيء، لكنه أفضل من أكثرنا في وضع الأشياء على نحو يكشف دواخلها وعلاقاتها، وهذا هو تمامًا ما يفعله المفكرون ويقصِّر فيه العلماء؛ إذ يُتخَمون بالمعرفة المتراكمة دون ضابط أو-وهذا هو الأهم- رؤية شمولية». ومن حسن استطراده إشارته إلى أن المسيري كان بالفعل صاحب معلومات ضخمة خاصة فيما يتعلق بالجماعات الوظيفية، ولكنه يفوق أهل المعلومات بالمنهج والرؤية الشمولية، وضرب أمثلة على ذلك من ربطه بين أشياء ليس بينها روابط في الظاهر. وربما من معالم هذا المنهج: إسقاط مبدأ الموضوعية المقدس في المجالات ا لعلمية، كما حاول المسيري في محاضرة عام 1985تقريبا، والنظر للحضارة الغربية من زاوية غير الرفض المحافظ غير المفكر، وغير التقبل الحداثي الليبرالي غير المفكر، ومن معالم هذا المنهج أيضا نقد الحضارة الغربية الذي جاء»على مستوى أكثر تركيبية وعمقا» من غيره من مناهج النظر. ب- وأنه قدَّم أطروحات في غاية الأهمية لعلم الاجتماع وأهمها مفهوم الجماعات الوظيفية الذي ساعد على تفسير دور جماعات وظيفية في كيانات مجتمعية ضخمة، وقيامهم بأدوار ثانوية يرفضها المجتمع المحيط ولكنها ضرورية مثل الإقراض والتمويل مثلا، ومن خلال هذا المفهوم استطاع تطوير الدراسات المتعلقة بهذه الجماعات الوظيفية وعلاقتها بالتشكيل الحضاري الغربي، واعتبر البازعي أن هذا هو الجانب الأشهر في أعمال المسيري. ج- ويثمن أيضا دراسته المعمقة للعلمانية التي أضاف فيها إضافة في غاية الأهمية –حسب قوله – وهي إعادة تعريف العلمانية بنظرة مزدوجة تخرج عن النظرة الأحادية التي اعتاد المفكرون أن ينظروها؛ حيث نظر إليها من زاويتين زاوية العلمانة الجزئية وهي فصل الدين عن الدولة والأخرى شاملة وهي السعي إلى إزالة القدسية عن العالم. د-والإشارة إلى نسبية قيمة المفاهيم؛ بسبب قصور اللغة في التعبير عن هذه المفاهيم بدقة شاملة لجميع جوانبها، ولقصور الإحاطة بالجزئيات التابعة لهذه المفاهيم، ورغم ذلك لا يمكن الاستغناء عن هذه المفاهيم. 4 - وجوه الإفادة: ذكر البازعي(المكون، ص26- 28، وقلق المعرفة، ص65- 66) بأريحية بأنه استفاد من المسيري عدة أمور: أ-الاتجاه الفكري النقدي الذي ينظر إلى الحضارة الغربية ويسعى إلى تحليلها للكشف عن خصائصها لتحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الحضارية، أو ما سماه في مكان آخر بالمنهج الذي درس به الغرب، فقد كان فاعلا بالنسبة للبازعي في تناول الجماعات الوظيفية والمصطلحات الفكرية والنقدية، وقد انعكس هذا التأثر البازعي بمنهج المسيري في كتابه المشترك مع د ميجان الرويلي»دليل الناقد الأدبي». ب- وذكر في مقدمة كتابه المكوّن (ص28) أن أحد أهم المصادر التي استقى منها معلوماته ورؤيته للموضوع كانت أعمال عبد الوهاب المسيري، وأطروحاته المدونة، وآراءه في حواراتهم الكثيرة حول الموضوع. ج- كما كان لصداقتهما أثر في رؤيته للعلمانية والتحيز وما يتصل بهما من مسائل. د- كما أن المسيري دعم توجهاته في قراءة العلاقات الحضارية والمعرفية وفي تناول المصطلحات، واقترح عليه بعض الأعمال للإنجاز وحثَّ على إتمامها، منها كتاب المكوّن. 5 -التمايز: يمكن تقسيم وجه تمايز البازعي عن المسيري إلى مظهرين: النقد والتأسيس المستقل. أولا: النقد: فرغم هذا الاعتراف الأخلاقي الشجاع بالتأثر بالمسيري نجد أنه كان تأثُّرا عاقلا ناقدًا؛ حيث يرصد من نواقص مشروع المسيري: أ- أنه لم يكن مشغولا بالأزمات الثقافية العربية نفسها وبمشاكل المثقفين العرب. قلق المعرفة 70-71). ولا يسلم بهذا الملحظ على إطلاقه، لأمرين؛ أنه أواخر حياته نزل من مرصده ليحتك بهذه المشاكل مباشرة مما يعني أنها حاضرة في ذهنه وإن غابت في كتاباته. كما أن هناك تناقضا في هذا الملحظ، حيث ذكر البازعي في موضع آخر(قلق المعرفة، ص71) أن دراسة المسيري للغرب من خلال علم الأزمة الذي كان يسعى لتأسيسه كان سيساهم في فهم الآخر والذات أيضًا، فنص عبارته:»ولو تحقق مثل ذلك لكان من نتائجه المرجوة نشر نوع من الوعي الأزموي لا إزاء الغرب فحسب وإنما إزاء الذات أيضًا». ب-كما يرى البازعي أن المسيري سعى في مشروعه إلى تطوير منظومة نظرية كبرى تستطيع تفسير كل الظواهر بعيدًا عن النسبية التي يطالب بها في مواضع أخرى، وهذا أدى به إلى نفي وجود علاقة أو تأثير إثني -لا ديني - في إنتاج المفكرين المنتمين لجماعات وظيفية في الغرب، وتأكيد أن دور إثنيتهم محدود في تشكيل فكرهم، وهذا يصدق عنده على أعضاء مدرسة فرانكفورت من شعراء وأدباء، ويرى البازعي أن هذا يتعارض مع كثير من التفاصيل التي تغيب عن تحليل المسيري، وكان هذا داعيًا لأن يؤلف البازعي كتابه «المكون»، عام 2007م. (قلق المعرفة، ص34) ثانيًا: التأسيس: تمثل التأسيس في اهتمام البازعي بسد النقص في الجوانب التي خالف فيها وجهة نظر المسيري وهي وجود تأثير إثني عند المفكرين الذين ينتمون لجماعات وظيفية في الغرب، وبالجوانب التي لم يهتم بها المسيري –كما يرى- وهو دراسة الأنا أو الذات. فقد ألف كتابه «المكون»؛ للتدليل على وجود تأثير إثني في إنتاج مفكرين ينتمون لجماعات وظيفية في الغرب، كما احتلت قضية دراسة الأنا التي غابت عند المسيري غالب نشاطه، منه على سبيل التمثيل لا الحصر، كتاب «مقاربة الآخر»، و»استقبال الآخر»، واحتلت بابين في كتاب الاختلاف الثقافي؛ الباب الثاني بعنوان في الاستشراق والمستشرقين، ويضم مقالات أربعة: الخطاب الاستشراقي المسلمون في الآداب الغربية-الآخر في النقد الغربي ال حديث-عاشقات الشرق- الاختلاف الشرقي: وايلد ، ييتس، بارت. والباب الرابع بعنوان: العرب في الثقافة الأمريكية: وضم أربع مقالات: كيف يرى المثقفون الأمريكيون قضايانا-القضية العربية في الثقافة الأمريكية-العرب في روايات أبدايك-العرب كما يراهم كومونياكا. 6 - تأكيد الفضل: كثير من مراهقي الباحثين تسوقهم نشوة النقد إلى الخروج عن الحياد، وإنكار كل فضيلة لمن سبق، لكنا لا نجد ذلك عند البازعي، فهو لا يجرد عموميات المسيري من كل فضيلة بل يثبت لها قيمًا عدة، منها: أ- للمسيري فضيلة التميز في إصدار رؤية حضارية تنشد الاستقلال عن الخطابات الغربية وتحاول قراءة الواقع الاجتماعي والتاريخ والقضايا الفكرية بمعزل عن المقولات السائدة في الفكر والعلوم الإنسانية والاجتماعية كما صيغت في الغرب. (المكون، ص28 ) ب- للمسيري الفضل في بيان أن بعض الجماعات الوظيفية ليس لها تاريخ مشترك ولا سمات اجتماعية واحدة ومن الخطأ اعتبارها متجانسة، وكلا واحدا مشتركا. (المكون، ص28، 29) ج- رؤية المسيري تستمد أهميتها في كونها منطلقات أساسية للقارئ الذي يسعى لفهم أفضل لأعمال مجموعة من المفكرين. (قلق المعرفة، ص76) تمايزات أخرى: وليس تمايز البازعي حاضرًا مع المسيري فقط بل ظاهر جدًّا في أمور أخرى، رصدت منها: 1 -نقد الاستشراق لإدوارد سعيد لأنه لم يهتم بالاستشراق النسائي، وقد يعزى سبب ذلك إلى قلة عددهن أو أنهن يخرجن خروجا شديد الوضوح على الأنساق المتحيزة والعدوانية التي رسمها سعيد في دراسته (الاختلاف الثقافي، ص169-170). 2 -الموقف من الحضارة الغربية؛ فرغم دراسته وثقافته واحتكاكه المباشر بالغرب لم يفتن به كما فتن الكثيرون، بل ظل محتفظًا بالتمايز، بل ويعيب على من يفرط في هذا التمايز وعلى «من يقع على ما لدى الغرب وقوع العطش على الماء لا يستطيع إلا أن يعب منه عبًّا دون أن يقدم بديلا لما أخذ منه، ودون تمييز لصافيه من كدره». (دليل الناقد الأدبي، ص19) 3 - في الموقف من قضية الاختلاف الثقافي؛ حيث رفض الميل إلى أحد رأيي الخلاف في قضية الاختلاف الثقافي بين الأمم والشعوب؛ حيث يخرج برأي ثالث غير لا أو نعم، وهو أن القضية أصعب من الخروج منها برأي واحد. (الاختلاف الثقافي، ص27) الخاتمة: بعد هذا التطواف المركز نلاحظ الموقف الأخلاقي الذي يعترف ويحلل وينقد ثم يثبت الفضل، ثم يتمايز في التأسيس، ويظهر في هذه المراحل الفكرية كلها أنه موقف يحمله رأسٌ مستقلٌّ لا يميل فوقه العقال. ** **