فابتداء إنه من المقدمات البديهية أن نتساءل: هل الأديان عمومًا، قادرة في التأثير على أخلاقيات قرارات القادة لتدفعهم إلى تجنب الحروب وسفك الدماء؟ نظريًا، وبخلاف الأديان الأخرى، فالنصرانية والإسلام من بين الأديان خاصة التي تبنت ودعت إلى الجهاد المقدس من أجل نشر الدين. وأما تطبيقيًا، فالأديان عمومًا كانت هي سبب غالب الحروب، أو كانت هي الغطاء الشرعي للحروب الاقتصادية والسياسية، سواء أكان هذا الاقتتال مذهبيًا بين أتباع الملة الواحدة أو ضد أتباع الملل الأخرى. إذاً فالأخلاق في الأديان الحركية لا تتفق مع الأخلاق الإنسانية العامة، إلا تحت قيود وبتحديدات معينة. فالإسلام كالنصرانية، كلاهما يدعو للتراحم ولمكارم الأخلاق مع الأمم الأخرى. كما أن كلاهما في الوقت نفسه يدعو لقتال الأمم الأخرى بدعوى الحرب المقدسة، التي توسعت فشملت الحروب المذهبية والطائفية والسياسية. فهذه الأخلاق الكريمة والتراحمية التي تشترك فيها الإنسانية هي أخلاق مُقيدة ومُنحبسة في الأديان الحركية كالنصرانية والإسلام. فكل ما تطرحه النصرانية والإسلام من مفاهيم التسامح والسلام ومكارم الأخلاق، فإنما هو مقيد بفرضية أن السيادة والعزة والحُكم تكون لأتباع الدين، وأما غيرهم من أهل الأديان الأخرى فهم درجة ثانية، تُفرض عليهم الضرائب والمكوس والجزية. وإنما التسامح والتراحم ومكارم الأخلاق، يكون بعد ذلك في عدم الاعتداء على أعراضهم وأموالهم ودمائهم. وقد كان هذا هو مفهوم التسامح والأخلاق في تعامل أتباع الأديان مع من خالفهم في دينهم، ومع هذا فقد فشل النصارى كما فشلت غالب الحضارات في تطبيقه قديمًا، بينما طبقه المسلمون - خاصة من بين جميع الأديان والحضارات- على مستوى عالٍ من المثالية البشرية. فهل هناك أخلاق خاصة ميزت المسلمين في حسن معاملتهم الأممية؟ ومرتكز التساؤل في هذه المقدمة هو: هل يمكن أن نجعل من هذا التاريخ الأخلاقي المشرق، تجربة عالمية يمكن الاعتماد عليها فى إمكانية الاستدلال أن يكون للأخلاق دور مهم في قرارات السياسي؟ والجواب عن ذلك يجب أن يضمن التساؤل عن لماذا كان تعامل المسلمين مع أتباع الملل الأخرى من أهل الذمة أرحم بمراحل من تعاملهم مع خالفهم من المسلمين من المذاهب الأخرى؟ هل هو لصراحة الأمر بهذه الأخلاق التراحمية للأمم الأخرى وصرامتها في نصوص الشريعة الإسلامية، أم أن حسن تعامل المسلمين مع أهل الذمة قد وافق معطيات معينة عملت على تطبيقها. وبلا شك، فإن الافتراض الثاني هو الصحيح. فكبار أصحاب النبي محمد عليه السلام، رضي الله عنهم وأرضاهم، قاتل بعضهم بعضًا رغم التغليظ والوعيد الشديد في الدماء، ومن بعدهم اقتتلت المذاهب الإسلامية فيما بينها في حروب غلبت عليها العنف وعدم الرحمة. وبالمقابل، فالأمر بحسن التعامل مع أهل الذمة جاء في صياغ عموميات الأخلاق ضمن نصوص الرحمة والإحسان عمومًا سواء أكان تخصيصًا بهم أو تعميمًا. لذا، فلا أعتقد أن التعاليم الإسلامية كانت هي السبب لحسن التعامل هذا، بل قد كانت الذريعة من أجل تحقيق مصالح أخرى. فلحسن تعامل المسلمين المميز في ثقافات ذلك الزمان مع أتباع الأديان الأخرى -كما أعتقد- أسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية. أما السبب الاجتماعي، فهو عدم وجود نفرة عند المسلمين من الأجناس الأخرى. لأن العرب، وهم حملة الإسلام وأصل الحكم والإمارة، كانوا هم الأقلية وغيرهم من الشعوب كانوا هم الأكثرية. فوجود أهل الذمة لا يخلق للقادة السياسيين متاعب عنصرية من كراهية الأجنبي والغريب والمخالف في الدين والتقاليد، والذي هو نفور فطري موجود في طبيعة المجتمعات المتجانسة. وأما السبب الاقتصادي فهو أهمية ما يدفعه أهل الذمة من الجزية مع ما يقدمون للمسلمين من خيرات. وأما السبب السياسي فهو استحالة منازعة أهل الذمة على الحكم في البلاد الإسلامية. وهنا وجد القادة السياسيون، أن الأخلاق التي جاء بها الإسلام تخدم المصلحة العامة فتبنوها، كما وجودها تخدم المصالح الدعائية الخاصة لهم بحسن معاملة أهل الذمة كما أمر الشرع الإسلامي مع عدم وجود نفور عنصري من شعوبهم. (من ورقتي التي قدمتها في مؤتمر فيينا، الذي كان للإجابة عن السؤال: كيف يمكن أن نحرر الأخلاق الإسلامية فتصبح ضمن اعتبارات القادة في البلاد الإسلامية؟).