ودَّعت الزلفي يوم الثلاثاء 5 -10 - 1439ه علماً من أعلامها، وعالماً من أكابر من دَرَجوا على أرضها، عاش بهدوء، وفارق الدنيا كما عاش فيها. ذلكم هو الأستاذ الدكتور سليمان بن عبدالعزيز بن صالح آل سليمان. وكعادة الناس إذا مات علم من الأعلام تتابعوا على ذكر مآثره، ومناقبه - تتابعت الألسن والأقلام على إيراد ما يتيسر لهم من مآثر الشيخ ومناقبه. ولا تثريب على الناس في ذلك؛ إذ هو من الذكر الحسن، ومن جملة لسان الصدق الذي يهبه الله من شاء من عباده. ولا ينغص على ذلك ما يُرَدَّدُ من أننا لا نذكر أكابرنا إلا إذا ماتوا، على حدِّ قول الأول: لا ألفينك بعد الموت تندبني وفي حياتي ما زودتني زادي فالقضاء يحكي الأداء كما يقول الفقهاء. ولأنْ يذكر أولئك - ولو بعد موتهم - خيرٌ من ألا يذكروا البتة. بل إن ذكرهم بعد الموت نوع وفاء، وسبيل اهتداء واقتداء. أقول هذا القول ويعلم الله أنني كثيراً ما أذكر في المجالس ما سأسطره الآن في حق حبيبنا، وجارنا الفقيد الغالي أبي هشام الذي طافت بي الذكريات معه فور علمي بخبر وفاته. ولن أُفيض في هذا المقال الموجز في ذِكْر مجملاتٍ لسيرة ذلك العلم، بل ولا إلى كثير من التفصيلات التي تحلل تلك الشخصية، وتحدد دقائق معالمها. وإنما هي إشارات ربما لا يعلمها الكثير ممن لم يعرفوا الجليل إلا إبان تقدمه في السن، ووصوله إلى أرقى درجات الأكاديمية، فتراهم يَعْجَبون من هذا العِلْمِ المتين، والموسوعية المبهرة. وما علموا أن ذلك ثمرة تحصيل طويل، ودأب مستمر، ونَفَسٍ مُستريض. لقد عرفت سليمان منذ أن كنت في الخامسة من عمري تقريباً؛ وذلك بحكم الجوار؛ وكان يكبرني ببضع سنين. وكنا نعد سليمان بمنزلة الأخ الأكبر لنا؛ حيث سبقنا بسنوات للتعليم؛ إذ لما كان في أواخر المتوسطة، أو أوائل الثانوية في المعهد العلمي كنا في بداية الدراسة الابتدائية. وكان منذ صغره متفوقاً في دراسته، شغوفاً بالقراءة والاطلاع، وكان ذلك معروفاً عنه عند جميع أهل الحي. ولا أذكر منه أدنى إساءة إلى أحد منا طيلة فترة الصبا، بل كنا نلقى منه الإحسان، والتعليم، والإجابة عما نسأله عنه. وكان في قرب حارتنا المكتبة العامة في الزلفي، وكانت تقع جنوب مصلى العيد المعروف، وكان سليمان يذهب إليها كل صباح منذ بداية الدوام إلى أن تغلق المكتبة قبيل أذان الظهر، ثم بعد العصر إلى أذان المغرب. وكان الشيخان عبدالله بن عبدالرحمن الداود، والشيخ راشد بن سليمان الرومي -رحمهما الله- أمينَي تلك المكتبة. والذي لا يعرف سليمان يظن أنه موظف في المكتبة من كثرة مداومته، وطول مكثه فيها. وكان قارئاً نهماً، ولا أبالغ إذا قلت: إنه قرأ كل، أو جل ما في تلك المكتبة قبل دخوله الجامعة وبعد دخوله فيها قبل تخرجه منها. ولا أبالغ - أيضاً - إذا قلت: إنه يكاد يستحضر جميع ما في المكتبة من الكتب، وأماكنها، وتصنيفها، ومحتوياتها. وكنا صغاراً نصحبه إلى المكتبة؛ لقراءة الصحف، وبعض الكتب خصوصاً كتب القصص، ولأجل أن ننعم بالمكان الظليل في المكتبة، وربما يحصل مع ذلك بعض الشاي. وكان من أهم ما يجذبنا أن نكتب أسماءنا حال دخول المكتبة في كشف الحضور اليومي ثم نوقع في خانة التوقيع، وكان ذلك يطربنا كثيراً. ولو رجعت إلى تلك الكشوفات لرأيت كثرة الترداد. وكنا نرى سليمان مكبًّا على القراءة لا يكل، ولا يمل. وكانت دراسة المعهد العلمي في تلك الفترة قوية في مناهجها، ومع ذلك لم يكن الشيخ يكتفي بها؛ إذ كان يرى أنها لا تروي نهمه، وتعطشه إلى العلم، والمعرفة. ولقد وهب اللهُ سليمانَ ذهناً صافياً، وقريحة وقّادة، وحافظة لاقطة، وذاكرة قوية، وجلداً عجيباً على القراءة والاطلاع؛ فكان ذا ثقافة عالية متنوعة؛ فلقد تسنى له في بواكير عمره قراءة أكثر كتب التراث، من أمهات كتب الشريعة بشتى فروعها، وأمهات الأدب، واللغة، ودواوين الشعر جاهليها، وإسلاميها، وعباسيها، وأندلسيها، ودواوين شعراء الدول المتتابعة، ودواوين شعراء العصر الحديث، وما يقع تحت يده من كتب المعاصرين. وكان -مع ذلك- عفيفاً، نزيهاً، محافظاً على الصلوات في المساجد، حريصاً على التبكير إليها. وأذكر أنه في تلك الفترة في أوائل التسعينيات وهو في مقتبل شبابه يلقي الكلمات الوعظية، ويجذب الحاضرين بصوته العذب الذي يشجي به الحاضرين خصوصاً إذا ألقى القصائد الوعظية، أو رتَّل الخطب. وكان يصحب الداعية عبدالكريم اليوسف المسعود -رحمهما الله- في الأماكن التي تُعقد فيها مجالس الذكر. وما إن انتهى من دراسته الجامعية إلا وقد ملأ وِطَابَه من شتى العلوم والمعارف، والثقافات؛ فكان بارعاً في سائر فنون الشريعة من تفسير، وعلوم قرآن، وفقه، وأصوله، وحديث، ومصطلحه، وعقائد، ومذاهب، وطوائف. ومن أعظم صفاته الصبر على البلاء، فلقد ابتلي في سنواته الأخيرة بأمراض عدة، فلم يكن يشكو منها، أو يخبر أحداً بها إلا القلة من أقرب الأقربين من أولاده - كما أخبرني بذلك ابنه الأكبر هشام -. ومع شدة اشتداد المرض عليه لم يكن يترك صلاة الجماعة، والتبكير إليها، ولا شهود الجنائز. ولا أدل على ذلك من أنه أصيب بجلطة وهو قائم يصلي مع الناس ليلة السابع والعشرين من رمضان ثم توفي بعدها بعدة أيام. ومن حميد صفاته ورعه في المكاسب، ومن الأمثلة على ذلك أنه لما صُرِف له بدل الحاسب من قِبَل الجامعة - رَفَضه، وكتب للمسؤولين: أني لا أستحقه؛ لأني لا أحسن التعامل معه إحساناً يستحق أن يصرفَ لي مكافأة عليه. ومن صفاته الجميلة ثبات الود، والمحبة لجيرانه، وأصحابه الأوائل؛ فبرغم أن الجيران الأوائل تفرقوا، وابتعدت مساكنهم عن بعض، وبرغم ما ناله من المكانة العلمية - لم يتغير أبداً على أحبابه، وأصدقائه، وجيرانه، بل بقي كما عهدوه من قبل. وكانت والدتي - رحمها الله - تجلُّه كثيراً منذ أن كان صغيراً، فكان يرسل إليها السلام، وترسل إليه السلام بعد أن تفرقت بنا المنازل. ولا أزال أذكر تعزيته المؤثرة المكتوبة التي أرسلها لي في والدتي لما توفيت في 3-9-1433ه. وإن مما يؤسف عليه في سيرته أنه لم يُخْرج كتبه في حياته، وكنت كثيراً ما أتكلم معه حول ذلك، وهو يقول: إن شاء الله سأخرجها، ولكنها تحتاج إلى مزيد تنقيح؛ فكنت أمازحه وأقول: ما وراء هذه الدقة دقة، بل أظنها تحتاج إلى مزيد وسوسة، فكان يضحك من ذلك. وقبل وفاته بفترة اتصل عليَّ وقال: أريد أن أخرج عدداً من البحوث عندي فما السبيل؟ فقلت: الحمد لله بشَّرك الله بالخير، الأمر يسير، تطبعها دور النشر، أو مركز تفسير سيرحبون بك، ففرح بذلك، واتصلت بمدير المركز الأخ الصديق الأستاذ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري، فسُرَّ بذلك أيما سرور، وقال: نسمع بالشيخ، وبسعة علمه، ونريد أن نطبع رسائله. وبعدها قال سليمان: إن شاء الله سأعدها للطبع، ثم حالت المنية بينه وبين ذلك. فلعل الله يبعث همة أولاده ومحبيه لنشر تراثه، ولو ما أعده من رسائل علمية - الماجستير والدكتوراه - أو بحوثه المحكمة، أو ما علَّقه على بعض الكتب، أو ما حرره في بعض المسائل، أو ما أملاه على الطلبة. هذه كلمات موجزة لا توفي الشيخ حقه، ولعل الله ييسر فرصة أطول لكتابة أوفى. رحم الله فقيدنا سليمان السليمان، وأسكنه فسيح الفردوس الأعلى، وأورثه صحبة النبيين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. ** **