كانت أسرة شيخنا محمد بن ناصر بن عبدالرحمن العبودي مختصة في مدينة بريدة بصنع دروج الرصاص من ملح البارود الذي كان يستخدم كذخيرة للبنادق قديماً في القرن الماضي وحققت أسرة العبودي جودة وشهرة في هذه الصنعة ... وقد ذكر الشيخ العبودي حفظه الله نقلاً عن والده (*) أنه استيقظ في جوف ذات ليلة فوجد والده (جد الشيخ العبودي) قد أرق وجافاه النوم وبه تأثر شديد .. فسأله عن سبب ذلك، فقال يا وليدي أنا خايف إننا نكسب إثم في ملح البارود الذي نصنعه فالناس يتحاربون به ويقتل بعضهم بعضاً ونكون نحن سببا في الإعانة على الفتن وسفك دماء المسلمين .. فقال (والد الشيخ) يا أبي لماذا تذكر الجانب الشين وتنسى الجانب الزين .. ولماذا لا تقول إننا بصنع البارود كنا سبباً في دفع الظلم وتقوية المظلوم .. ولماذا لا تقول كم فك ملح البارود من حق مغتصب أو أعاد حلالاً مسروقاً وكم ردع من (حنشل) يقطعون الطريق على الآمنين .. وهناك أيضاً من يصيد به صيداً حلالاً ويطعم به أولاده الجياع .. فسرى الهم عن الشيخ عبدالرحمن العبودي صانع البارود بهذا الكلام المقنع وارتاح خاطره. لقد ذكرني ندم شيخ البارود عبدالرحمن العبودي وصحوة ضميره بالسويدي (ألفريد نوبل) الذي اخترع (الديناميت) عام 1867م الموافق 1284م وهي مادة متفجرة يمكن التحكم بفاعليتها التفجيرية بأمان، واسم الديناميت مشتق من الكلمة اللاتينية (الديناميت=السلطة) وقد استعرض نوبل مادته المتفجرة للمرة الأولى في عام 1867م في محجر بريدهيل في مقاطعة سري بإنجلترا. وقد حقق نوبل شهرة واسعة وثروة طائلة من هذا الاختراع .. ولكن في عام 1888م نشرت صحيفة فرنسية خبر وفاة الفريد نوبل (بالخطأ) وكتبت الخبر تحت العنوان التالي (تاجر الموت يموت) وقد فزع نوبل من هذا العنوان وتخيل نظرة الناس السلبية له بعد وفاته بسبب اختراعه (الديناميت القاتل) فأراد أن يتدارك هذه النظرة السلبية ويكفر عن اختراعه ويترك له ذكرا حسنا في الغابرين فقام بكتابة وصيته وكتمها عن أسرته حيث لم تعلن إلا بعد وفاته وقد أوصى فيها بوقف جزء كبير من ثروته لمنح جائزة باسم (جائزة نوبل للسلام) وقد بلغت قيمة المنحة مليون و700 ألف جنيه إسترليني.. وبينما وافى الأجل المحتوم الفريد نوبل عام 1896م إلا أن جائزته كُتب لها القبول في الأرض حتى تعددت فروعها وأصبحت أشهر وأعلى جائزة تشرئب لها الأعناق في عالمنا اليوم. وهنا أسأل _ بعد عرض هذين الموقفين _ كم من المحن تطوي في ثناياها المنح، وكم من خطأ جر إلى صواب فليس هناك شر محض فالإنسان الذي هداه خالقه للنجدين قادر على تحديد مسار جديد لفعل الخير ومنفعة مجتمعه اذا ما ضربته سياط الندم على ما فات من تقصير في حق الانسانية فمن أبكى فهو قادر على أن يضحك ومن قتل نفساً فقد أحيا أنفساً .. والعبرة بالخواتيم .. وصدق شوقي حين قال: بقي أن نذكر أن نوبل القصيمي ونوبل السويدي جمعتهما سنة ميلاد واحدة هي سنة 1248م ولكن الموت غيب نوبل السويدي قبل نوبل القصيمي بقرابة عشر سنوات. ... ... ... (*) محمد العبودي، معجم أسر بريدة ، ج14 ، ص212 ** **