يعرض ابن حزم لنشأة اللغة في كتابه (الإحكام في أصول الأحكام)؛ فيبدأ بالتساؤل عن نشأة اللغة: هل هي توقيفية أم اصطلاحية؟ ويرجح المؤلف الرأي الذي يعتمد توقيفية اللغة بحجتين: برهانية، ونص القرآن؛ فالقرآن في قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا}؛ والبرهان يقتضي أن اللغة ليست اصطلاحًا لأن الاصطلاح -بحسب المؤلف- يقتضي وجود عدم اصطلاح قبله؛ وهذا متعذر عقلًا؛ وأيضًا لأن الاصطلاح يحتاج إلى إلمام واسع بالمعارف والعلوم مما لا يتأتى للإنسان في عمره الأول؛ مما يرجح توقيفية اللغة مع إمكانية ابتداع البشر لغات متجددة ومتنوعة فيما بعد. ثم يناقش المؤلف الرأي الذي يربط تكوّن اللغة بالأمكنة؛ باعتبار أن «الأماكن أوجبت بالطبع على ساكنيها النطق بكل لغة نطقوا بها»، ويرد المؤلف هذا الرأي بأن الأمكنة ليست كلها تعكس لغة خاصة بها؛ بل نجد هناك تداخلاً في كثير من الأمكنة بين العديد من اللغات. وينتقل ابن حزم إلى مناقشة أصل اللغة التوقيفية التي رجحها سابقًا؛ فهل هي العربية أم السريانية أم العبرانية أم اليونانية؟! وهنا يعيد العبرانية والعربية إلى السريانية؛ ويؤكد تطور اللغات وتأثرها ببعضها؛ وتغيرها بسبب المقاربة؛ ومع تأكيده أن اللغة الأصل التوقيفية هي أكمل اللغات وهي اللغة التي علمها الله لآدم إلا أنه لا يقطع بتحديد هذه اللغة فيقول: «ولسنا نقطع على أنها اللغة التي وقف الله تعالى عليها أولاً، ولا ندري لعل قائلاً يقول: لعل تلك اللغة قد درست البتة وذهبت بالجملة أو لعلها إحدى اللغات الباقية لا نعلمها بعينها». ويجتهد المؤلف ليعيد كل اللغات إلى لغة واحدة علمها الله لآدم ثم تفرعت عنها هذه اللغات. ويعود المؤلف إلى أثر الدولة في بقاء اللغة وتطورها أو فنائها؛ فيرى أن «ما يقيد لغة الأمة وعلومها وأخبارها قوة دولتها ونشاط أهلها وفراغهم؛ وأما من تلفت دولتهم وغلب عليهم عدوهم ...ربما كان ذلك سببًا لذهاب لغتهم». ويختم ابن حزم بمناقشة (تفضيل اللغات) ويعرض آراء المفضلين للغة على غيرها؛ ثم يرد عليهم ويتبنى القول بعدم تفضيل لغة على لغة؛ وهو مما لا نجده في القرآن الكريم؛ وأما ما نجده فهو تبليغ كل رسول بلغة قومه وهذا مما يدل على عدم تفضيل لغة على أخرى ((وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه))؛ «ولم ينزل القرآن بلغة العرب إلا ليفهم ذلك قومه عليه». وأما ما يراه جالينوس في تفضيل اليونانية على غيرها من اللغات لأنها كنقيق الضفادع فهو مما يرفضه المؤلف ويرده. وعليه فإن اللغات متساوية تساويًا واحدًا؛ لأن كلام الله تعالى نزل على كل قوم بلغتهم. ثم يعرض ابن حزم رأي من يقول إن لغة أهل الجنة هي العربية؛ ويرد هذا الرأي بأنه لا دليل عليه من نص أو إجماع؛ ومن يقول إن قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} دليل على كونها عربية؛ فنرد عليه بأن قوله تعالى -عن أهل النار-: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ}، أيضا يدل على أن لغة أهل النار هي العربية وهذا مما لا دليل عليه. وأن الله تعالى يحكي عن كل قوم بالعربية في القرآن؛ لكن هذا لا يدل على أن لغة هؤلاء القوم هي العربية بل إنه ينقل عنهم بلغتهم الأم. ونجد من خلال هذا الفصل عن اللغات قوة تفكير ابن حزم الذي اشتهر بالمذهب الظاهري؛ الذي يتعامل مع النصوص بالمعنى الظاهر لها دون تأويل وغوص في معانيها؛ وهذا مما ميز ابن حزم عن غيره من المذاهب إلا أن مذهبه لم يكن له تلاميذ ينشرونه فبقي في خانة المنسي والبعيد عن مجال الفقه التداولي في الفكر الإسلامي. ** ** - صالح بن سالم