في السنتين الأولتين من حياتنا الزوجية كانت زوجتي تشعر بالملل، بينما كان لي أصدقائي وكتبي ونشاطات رياضية واجتماعية.. وكان ضميري يؤنبني للفراغ الذي تعيشه. حضيتها على القراءة ولم تجد فيها ذاتها، أخترت لها الكتب التي أحببتها ولكن دون جدوى.. مرة كتبت لها قصة وقرأتها بتلذذ.. ثم طلبتني قصة أخرى.. أصبحت بعدئذ أكتب لها مشاهد من حياتي.. وعندما أنسى التفاصيل أضع تفاصيل من خيالي .. حتى أصبحت كامل القصص مؤخراً تعتمد على الخيال وعندما عرفت ذلك بدأت تشك في قواي العقلية... (2) اشتريت ديوان المتنبي وأنا في الخامس ابتدائي، وعندما لم أستوعب ما يقول وضعته على الرف.. عاودت النظر إليه وأنا في المرحلة الجامعية.. تفاعلت معه وبدأت أحفظ كثيرًا من حكمه.. ديوان المتنبي ما زال في رف مكتبتي يحمل غلاف أصفر مكتوب عليه العرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، وبخط كبير: المتنبي. ثم الطبعة الثانية ثم دار القلم، بيروت، لبنان. وفِي الداخل مكتوب للعالم العلامة اللغوي الشاعر المشهور، الشيخ ناصيف اليازجي.. وكنت قد كتبت على الصفحة الأولى ملاحظات من ضمنها «ص 548» وعندما فتحت تلك الصفحة وجدت قصيدة مطلعها: عيدٌ بأية حال عدت ياعيد... (3) عشت طفولة شبه بائسة، كانت الحياة قاسية وكان والدي أكثر قسوة.. كان شقيقي الأكبر يجلب الصحف والمجلات.. ولشدة الفراغ كنت اتصفح الجرائد بحثا عن خبر لفريقي الذي أحببته، أخذتني الصحف لقراءات أخرى .. صرت اقرأ بعض مقالات وموضوعات خفيفة خاصة تلك التي تأتي في الصفحة الأخيرة.. ومع الأيام تحوّلت الصحف إلى حالة يومية من الإدمان.. أتاح لي عملي في وزارة الإعلام (بعد الثانوية) أن أحصل يوميًا على جميع الصحف ثم عرفت مواقعها ورؤساء تحريرها وعدد من كتابها.. وفِي الجامعة التحقت بقسم الصحافة (بدأت ولم أكمل).. بعد انتهاء الجامعة عملت متعاونًا مع عدد منها.. (4) بدأت علاقتي مع مجلة اليقظة الكويتية وأنا في المرحلة المتوسطة، وفي الصف الأول ثانوي.. نشرت المجلة صورة لي وتحتها بياناتي ومن ضمنها هوايتي وهي المراسلة.. انهارت الرسائل كانت تأتيني أعداد كبيرة من الذين يريدون إقامة صداقة معي وأغلبهم من بلاد الرافدين العراق.. استمريت انتظر اليقظة كل أسبوع اقرأ فتاوي محمد سلامة جبر، واقرأ الحوار مع فتاة الغلاف واندهش من قدرتها الفائقة على التعاطي مع أسئلة الصحفي، وأتجول هنا وهناك قبل أن أحتفظ بها ثم أناولها فتاة حذقة كنت أحبها آنذاك.. وعندما تقدمت لها رفضت.. وكأنها نسيت كل تلك الأعداد التي ناولتها بيدي.. (5) كل شيء في الصف الأول الثانوي كان رائعًا .. نشاطاتي أصدقائي دراستي وتفوقي.. حتى مقرر الأدب العربي كان ممتعًا.. أتذكر أنني أخذت نسختين.. أحتفظت بواحدة وسلمت أخرى لقريب وصديق لي كان يعشق الأدب .. وكنا آنذاك نتبادل رسائل الود الطويلة.. سأقول سرًا.. لم أكن أتعاطى مع الشعر ولا أحب الأدب حينها ولكن أستاذي كان يزيدني درجات بحكم أنني متفوق في المواد الأخرى.. وسر آخر... لازلت حتى هذه اللحظة أَجِد في المراسلة هواية شيقة وممتعة.. (6) في جدة بداية الدراسة الجامعية كان لديّ صديق وزميل وروميت يدعى إبراهيم، كنّا نثرثر ونتبادل الود، كان يتفوق عليّ في كثير من المهارات الحياتية.. وكنت اؤمن به كثيرًا.. وكان لديه مؤلفات ديل كارنيجي، يقرأ ويطبق.. ثم يحثني على مضاعفة القراءة .. اتخذت قرارًا واتجهت إلى مكتبة الجامعة واعتكفت فيها أسبوعًا ..ورغم قصر الفترة إلا أنني شعرت بتغيير في شخصيتي.. هذبتني القراءة.. شعرت بقيمتي أمام نفسي .. (للأسف لم أستمر.!) جذبني أصدقاء البلوت واستهوتني مسامرتهم.. تركت المكتبة واقتنيت كتاب البلوت ل فؤاد عنقاوي.. قرأت وطبقت وأصبحت مرجعًا في تلك اللعبة.. فأطلقوا عليّ «حينا» حسين عنقاوي.. (7) بين حين وآخر.. أحضر برفقة أقاربي معارض الكتاب، أشتري كتباً منوعة.. قصص الأنبياء مثلاً.. المستطرف في كل فن مستظرف.. كتب علي طنطاوي وكتب تراثية .. وكتب لمصطفى أمين .. في رمضان بعد الإفطار كنت اختار كتابًا لأنيس منصور وأقرأه قبل أن نعرف طاش ماطاش.. وقبل أن أحضر برنامجًا تدريبيًا في الصحافة لأنيس منصور.. كان يشاركنا البرنامج كاتب مقال مشاغب اسمه ثامر الميمان (رحمه الله)..شاغب أنيس كثيرًا وفوّت علينا فرصة الاستفادة من الدورة وذهب ثمن ذلك البرنامج هباء.. (8) في وزارة الإعلام مديّت جسور العلاقة مع الزملاء الذين يملكون حق توزيع الكتب والمجلات، فكنت أحصل على المجلة العربية ومجلة الحرس الوطني والفيصل والمنهل وأحيانًا مجلات الشركة السعودية وعدد من المطبوعات.. كنت مباشرة اتجه لقراءة القصص.. ومرة استعرت من مكتبة الوزارة رواية تحمل عنوان «عذراء قريش» لجرجي زيدان، وفي وقت قصير قرأتها من الغلاف إلى الغلاف .. تلذذت بقراءته واستوعبت أحداث أهم حقبة في التاريخ الإسلامي وتعلمت كيف تكون الكتابة مشوقة.. أعدت الرواية للمكتبة وأخذت رواية أخرى .. أكملت فيها خمس صفحات بعناء ثم أعدتها وتوقفت حينًا عن قراءة الروايات.. (9) في السكن الجامعي كونت مكتبة من المراجع التي يطلبها أساتذتي .. ومن أمهات الكتب.. كانت قليلة لا تزيد عن 70 كتابًا وكنت أتنقل بها، حتى تزوجت وصار عندي مساحة أكبر وبالتالي رفوف أوسع ثم كتب أكثر وهيأت طاولة تحفزني على القراءة.. وتناولت كتب قيمة قرأتها بتأمل أهمها كتاب الغذامي الحداثة ومسائل أخرى.. إضافة إلى بعض كتب التراث وكتب لعلي طنطاوي وبعض الكتب بين غازي القصيبي وخصومه.. (10) عندما انتقلت معلمًا للغة العربية في المعهد الثانوي التجاري.. اختلفت قراءاتي .. أصبحت دقيقة ومركزة، صرت اقرأ لأجل أعكس قراءتي اليوم التالي لطلابي .. لذلك تواصلت بشكل أدق مع القواعد والأدب والبلاغة .. درست اللغة العربية ثلاث سنوات كل صف سنة واحدة .. وفي السنة الرابعة تغيرت المناهج وانتقلت لتدريس مهارات الاتصال والعلاقات العامة بدلاً من اللغة العربية .. عامًا واحدًا فقط ثم اتسلم عمل جديد في التدريب التعاوني تنقلت في وظائف من ذلك النوع زمنا طويلا بعيد عن التدريس.. ثم عدت كمدرب لمواد سلوكية وأخلاقية في الكلية التقنية. (11) في فترة الأعمال الإدارية التي كنت أعملها، التحقت بالعديد من الدورات التدريبية.. كانت البرامج التدريبية تقدم لي ما هو أكثر من القراءة.. كانت تقدم لي المعلومة المركزة وتعلمني المهارات الحياتية المختلفة وفي الوقت نفسه كنت اقرأ المذكرات والملزمات الخاصة بتلك الدورات.. ساهمت تلك البرامج في حصولي على ثقافة جديدة تتعلق بتطوير الذات والبرمجة العصبية وتقويم الشخصية وتطويرها (12) في الصحافة كان الأكثر أهمية من طرح ونشر الموضوعات المتنوعة، هم الأصدقاء الذين تعرفت عليهم من خلال عملي في محيطها.. كوَّنت مجموعة من أصدقاء الحرف التقيهم لقاءات ودية أو في المؤسسات الثقافية مثل النادي الأدبي .. ومعارض الكتاب نتبادل الرؤى حول الكتب والدواوين والروايات المهمة والكتّاب الذين يستحقوّن أن نقرأ لهم.. (13) إذا كانت الصحافة علمتني موضوعات صحفية متنوعة محلية واجتماعية .. فقد تعلمت في المنتديات وتحديدًا جسد الثقافة كيف يكون حرفي أدبيًا.. وكيف أتدرب على الكتابة بشكل شبه يومي بكامل حريتي.. كنت اقرأ وأكتب .. أصبحت بعدئذ اختار أصحاب الحروف العذبة .. اقرأ لهم ثم أكتب حتى صار حرفي قريبًا من حروفهم في التشويق والعذوبة والكثافة التي يقدمها للمتلقي.. (14) فادتني المراحل التعليمية وحضتني على القراءة المكثفة والمركزة.. في المرحلة الجامعية لم أقم علاقة ودية مع الكتب إلا في آخر ثلاثة فصول دراسية.. في الدبلوم التربوي دخلت بكامل عشقي للدراسة والبحث وكذلك الإشراف التربوي ثم بعض الدورات التربوية إلى أن أتت دراسة الماجستير .. تنوعت دراستي بين اللغة والأدب والتنمية البشرية وعلم النفس والاجتماع والأسرة .. ووجدت أن دراسة علم الانسان وسلوكه هو الأصعب وفي الوقت نفسه الأقرب لعاطفتي.. (15) مع مرور الوقت كونّت صداقات عديدة مع كثير من مبدعي الحرف، فأصبحت أتلقى كتبهم ومجموعاتهم ودواوينهم كإهداءات .. بل وبعضها أبحر فيها وأقدم لها قراءات مكتوبة .. نجتمع أسبوعيًا وأقدم لهم قراءة تحتوي انطباعي في حروفهم ... ليلة من المتعة وتبادل النقاش وإثراء المكان بالمفيد.. - حسين بن محمد الغامدي