يحدث أن تقرأ كتاباً أو سطراً وأنت عابر بين الكتب، ويبقى عالقاً ومؤثراً ورناناً في عقلك ووجدانك، وهذا الأثر هو الإحساس الصادق بالداخل، الذي يتوقف عند ما يشبهه إن رغبت وإن لم ترغب، وإن تجاهلته يبقى نابضاً وإن خفُت ينتظر كوة من حياة يعود إليها، موقظاً لحظةَ ولادتِه تلك التي استوقفتك فقرأت، لا تبحث عن تفسير لذلك، «لأنّ الحقيقة شيء ثقيل»، كما قال فاروق جويدة في قصيدته «ويبقى السؤال». في ردهات مكتبة الملك عبد العزيز العامة في الرياض في حي المربع كُنت هناك ذات صيف ليس ببعيد، وتحت لافتة (الفلسفة)، وجدت كتاباً منزوياً بين كتب كبيرة، عناوينها بين مبادئ ونظريات وتفرعات، كان العنوان مثل ترنيمات طفل ضائع تعب من البحث والركض، يتشبث بآخر جملة للعابرين: «عن الإنسان أتحدث»، تصفحته وتوقفت عند مقال عن الإحساس بالألم في قسم «الحالة الإنسانية»، تحدث عن الفرق بين إحساس الإنسان بالألم وبين إحساس الحيوان، فالحيوان وإن تعرض لأذى جسدي يخلد للنوم، بينما الإنسان يتعاظم عنده الألم الجسدي إلى ألم نفسي يفقده القدرة على النوم وإن تبددت الآلام الجسدية، الكرامة تؤلم، والمهانة تؤلم، والضعف يؤلم! لم أتجاوز ذلك، ولم أكتب في الكناشة في هاتفي ولا على الورق، فقد كتبتها في عمق داخلي ولم أنسَ، كان يتحدث فعلاً عن الإنسان بكل صدق وعقلانية، وهنا عن الألم أتحدث عن النبضة الحارقة. الألم في اللغة هو الوجع الجسدي، ويقابله الحزن والأسى في النفس، وفي معنىً من المعاني الفلسفية الألم في معناه الضيق: ألم الجسد، وفي معناه الواسع: الألم النفسي، لكن هل يمكننا التسليم بذلك؟ من يشعر بالألم الجسدي سيقلل من الألم النفسي، والعكس مع من يشعر بالألم النفسي، والذي أراه أن كلاً منهما طريق للآخر، والألم كلٌّ لا يتجزأ، ويرى فيلسوف القوة «نيتشه» أن إرادة القوة تستلزم بالضرورة الألم، فإرادة القوة من أجل الحياة لا تنفصل عن الألم، يقول في هذا المعنى أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوما أراد الحياة ... القصيدة، والقصيدة جميعها في معنى إرادة القوة (الحياة)، ومقاومة الضعف، ولا مقاومة بلا ألم، بلا شهداء وموت ومآسٍ وأحزان، الحياة هي اللذة التي تنتج عن آلام الآخرين، ومن هذه الفرضيات أعود إلى مفارقة الألم بين الإنسان والحيوان، فلو لم يشعر الإنسان بالألم وقاوم الضعف لما اختلفت حياته ولم تنْمُ نموها الطبيعي، وهنا تكمن لذة الألم، وإن كان موجعاً لمن فَقدوا ولمن تألموا، ومن ذلك نتج أدب يحكي الآلام، وقارئ هذا الأدب لن يخرج معافى، فسيشعر بتلك الآلام في كيانه، منها ما يحكي عن مرض مثل رواية «عندما تترنح ذاكرة أمي»، ومنها ما يحكي عن حروب مثل رواية «جسر على نهر درينا»، ولا يمكنني العد ولا الحصر، الأمم التي تألمت أكثرَ هي الآن متقدمة وإنسانية أكثر. ختم بدر شاكر السياب آلامه بهذا الرضا لك الحمد، إن الرزايا عطاءٌ وإن المصيبات بعض الكرمْ ألم تعطني أنت هذا الظلامَ وأعطيتني أنت هذا السحرْ [1] - عن الإنسان أتحدث تأملات في الفعل الحضاري، تركي الحمد.