غادرنا يوم الخميس 16 ذي الحجة 1438ه 9 سبتمبر 2017م إلى الدار الآخرة، أحد أساتذتي الأجلاء، الذي تعلمت على يديه في كلية الآداب، جامعة الرياض آنذاك في السنوات الأولى من السبعينيات الميلادية، وأقصد بذلك أستاذي الفاضل الكريم الدكتور محمد عبدالرحمن الشامخ رحمه الله وغفر له. وهذه انطباعات شخصية عن الراحل الكبير. لذلك لن أتطرق إلى مكانة الدكتور الشامخ العلمية، ولا جهوده الأكاديمية التي عُرف بها ريادياً في أبحاثه عن تاريخ التعليم بالحجاز، وتاريخ الصحافة، والنثر الأدبي في المملكة، مما قام به الكثير من طلابه وزملائه ومحبيه، في الأسابيع الماضية، وإن كان هناك الكثير مما يمكن يقال ويكتب عن هذا الرجل العالِم. لقد رأيت أن يأتي مقالي هذا ضمن الجانب الشخصي الذي جمعنا نحن طلابه في علاقتنا به، لعله يضيف بُعداً آخر في الحديث عن الدكتور الشامخ، وذلك من خلال ما استقر في ذهني عن هذه العلاقة، ومما لا أزال أذكره من بعض تفاصيلها.. لعل الذين قرأوا أبحاثه يعرفون مدى دقة عباراته التي يفصلها على قدر المعنى وخلوها من أية زيادة لفظية، وهكذا كان في أسلوب تدريسه، صرامة علمية واضحة. درست - وزملائي - ثلاث مواد مع الدكتور الشامخ، الشعر العربي الحديث، (وكان يشمل الشعر السعودي، حيث لم يستقل الأدب السعودي بمادة منفصلة آنذاك) ومنهج البحث، ومادة في الترجمة، وكانت مشكلتنا معه نحن طلابه أنه لا يملي علينا شيئاً نكتبه كما يفعل زملاؤه أو بعضهم، وكان يأتي بالكتاب أو الديوان ونقرأ منه نصوصاً يحاورنا حولها، ثم ندون ما يتطاير من ملاحظاتنا. وقد سببت هذه الطريقة مشكلة لنا. فالامتحان آنذاك واحد شامل لكل المادة في نهاية العام، فانتابنا شعور بالقلق من أن ما دوناه من ملاحظات وما سعينا إلى إضافته من المراجع قد لا يكفي لحصد درجات جيدة.. ولاشك أننا أدركنا فيما بعد أن أسلوب الدكتور الشامخ في تدريس النصوص هو الأسلوب الصحيح والأمثل، لأنه كان يريدنا أن نكوّن أفكارنا ومعرفتنا عن النص من النص نفسه وليس مما يقال أو ما يكتب عنه.. لقد بدأ لنا أنه لا يميل إلى مذهب البارودي وأحمد شوقي في الشعر الحديث، وكان يفضل عليهما مذهب خليل مطران، الذي يُعتبر نقطة التقاء أو نقطة تحول في الشعر العربي الحديث من التقاليد الكلاسيكية إلى الشعرية الرومانسية واعتبرت قصيدته الشهيرة «المساء» أول قصيدة رومانسية في الشعر العربي الحديث. جاءنا مرة بديوان خليل مطران وقرأ معنا من مقدمة مطران لديوانه هذه العبارات: «هذا شعر ليس ناظمه بعبده، ولا تحمله ضرورات الوزن والقافية على غير قصده». وقد تجسَّد هذا المفهوم في شعر مطران، بما معناه أنه يحرص على البحث عن الكلمة والتعبير الذي يؤدي المعنى بدقة مهما كانت غرابة المفردة أو بُعدها عن الاستعمال. وهاجم بعض النقاد مطران متهمين شعره بأنه عصري - وكانت أيامها تشبه تهمة الحداثة التي ظهرت فيما بعد - لكن المصطلح (عصري) انتشر في مصر وفي غيرها من البلاد العربية بمعنى الشعر الجديد، كما وظفه محمد حسن عواد كثيراً وظل يدافع عن شعره وأدبه بأنه أدب عصري وأدب حر... من ناحية أخرى ظهر لي أن الدكتور الشامخ ربما كان غير مقتنع بالشعر المنثور ومصطلح قصيدة النثر، فكان يسميه النثر الشعري. وأذكر أنه كتب مقالاً نارياً هاجم فيه شاعر قصيدة النثر السوري محمد الماغوط بعنوان: «وتمغط الماغوط»، وهذا من الذاكرة، فالمقال ليس لدي، ونسيت أين نشره، هل هو في جريدة الرياض أم الجزيرة؟ ولعل غيري يضيف لهذه المعلومة لأن المقال - على حد علمي - لم ينشر في أي من كتبه.. في منهج البحث كنا نعتمد على كتاب ثريا عبدالفتاح ملحس «منهج البحوث الجامعية للطلاب الجامعيين 1960م، وكان حينها لم يؤلف الدكتور الشامخ كتابه: (إعداد البحث الأدبي 1985م) بعد أن درّس المادة لعدد من السنين... وكنا طلاباً قد جئنا من الثانوية لا نعرف شيئاً عن منهج البحث ولا حتى علامات الترقيم فكان حلمه وصبره علينا وحرصه على أن نستفيد فعلاً من المادة أثره في استمتاعنا بمادة لم نكن قد عرفنا عنها شيئاً قبل عتبة الجامعة. واعتقد أنه إذا ما تذكرنا ما قلنا عن أسلوبه الدقيق في الكتابة والبحث، نستطيع أن نفهم دوافع تأليفه لكتابه (إعداد البحث الأدبي) الذي أراده أن يكون تطبيقاً لما يلتزم به من أسلوب علمي في البحث الأدبي، وفائدة يقدمها للباحثين عامة... في مادة الترجمة كان يستخدم - فيما أظن - كتاب المستشرق البريطاني الشهير رينولد نيكلسون 1868-1945م، «التاريخ الأدبي للعرب» الذي صدر في طبعته الأولى عام 1907م، ثم صدر فيما بعد في طبعات لاحقة، وكان غرض الدكتور الشامخ -رحمه الله- من الإتيان بفقرات من هذا الكتاب هو أن تكوين ترجمتها سهلة بالنسبة لنا نوعاً ما لأنها تتحدث عن موضوعات في الأدب العربي يفترض أن نعرفها وبالتالي نستعين بهذه المعرفة على صعوبة اللغة. من الأشياء الشخصية التي لازلت أذكرها عنه هو أننا أحياناً نصادفه بعد الامتحان مباشرة، فيبادرنا بطلبه عدم إفصاح أي أحد منا عن ما كتبه في الامتحان لأنه - رحمه الله - لا يريد أن يتأثر أثناء التصحيح بمعرفة اسم الطالب، حيث كانت الامتحانات آنذاك تعتمد ما يسمى بأرقام الجلوس. عندما عدت من البعثة علمت أنه تقاعد من العمل الجامعي وكان آخر نشاط ثقافي - فيما أذكر - هو اشتراكه في ندوة أقامها نادي الرياض الأدبي عام 1987م، أو قريباً من ذلك، في أحد فنادق الرياض.. وإن كان قد أبقى بعد اعتزاله على علاقة بتحكيم جائزة الملك فيصل العالمية لمدة قصيرة كما كان عضواً في المجلس البلدي للقصيم لبضع سنين ولكنه توارى بعد ذلك في عزلة تامة ثقافياً واجتماعياً.. عند تقاعده أهدى مكتبته لجامعة الملك سعود وعندما طُلب مني تدريس مادة الأدب السعودي، كانت مكتبة الدكتور الشامخ خير عون ودليل لي في تحديد معرفتي بالأدب السعودي بعد غياب سنين عن الوطن. واستفدت كثيراً من مكتبته في الوقت الذي كانت مكتبة الجامعة فقيرة آنذاك في دواوين الأدب السعودي وربما لا تزال، خاصة في دواوين شعراء الحداثة الآن. وفي مرة من المرات وأنا أقلب محتويات مكتبته وجدت في ثنايا أحد الكتب أوراقاً مطبوعة بالآلة الكاتبة، وقصيدة بخط حمزة شحاته - وخطه معروف بجماله - وعنوانها: «ماذا تقول شجرة لأختها» وهي من القصائد التي لم تجمع مع القصائد الأخرى في الديوان الذي صدر عن دار الأصفهاني وذلك الذي صدر عن نادي جدة الأدبي وهو نسخة طبق الأصل لنسخة الأصفهاني. ويبدو أن جامعي الديوان قد اعتقدوا أن دلالة رمزية القصيدة قد تسيء لتاريخ حمزة شحاته، ولعلهم بالغوا في هذا التحسس، ثم جاء صديق لحمزة شحاته بعد ذلك هو غازي عبداللطيف، فنشر قصائد بعضها لم ينشر من قبل، وضمها في ديوان بعنوان: (قصائد لم تنشر للشاعر حمزة شحاته) ومنها القصيدة المشار إليها. عندما نقرأ دراسات الدكتور الشامخ الأكاديمية نجد فيها قيمة نقدية طليعية، فهو يؤمن بالتجديد في الأدب وفي الفكر، واعتقد أن هذا هو انطباع كل من تتلمذ عليه، ولم يكن أحد ممن عرفه وعرف دراساته، ودوره الأكاديمي البارز وجهوده الريادية في توثيق ودراسة النثر الأدبي، والصحافة والتعليم في المملكة، ليتصور أو يتخيل أن الدكتور الشامخ سيعتزل الحياة الثقافية بعد تقاعده من الجامعة، حيث وقع خبر اعتزاله على تلامذته ومحبيه بما يشبه المفاجأة، حيث ابتعد عن أضواء الحياة الثقافية ولم يحضر أي تكريم له، وأهدى مكتبته لجامعة الملك سعود كما رأينا... لا أظن أحداً يملك إجابة مقنعة على الأسئلة التي أثارها اعتزاله وعزوفه الواضح عن أي نشاط ثقافي بعد التقاعد ولعل الخوض في أسباب هذا الاعتزال هو من قبيل التخرص والتخمين والظن. لقد بدا لي أن الدكتور الشامخ في فترة متأخرة من حياته الجامعية قد وصل إلى قناعة بأن ما يؤمن به من فكر وموقف من الحياة والأدب لا يراه متحققاً على أرض الواقع كما يأمل هو. لم يكن -رحمه الله- راضياً عن توجهات مجتمعة المادية، ولا عن ما أصاب الأدب العربي واللغة العربية من آثار التغريب كما يراها. عندما نتوقف عند كتابه (كاتب الحي 1983) نجد أن العنوان يذكرنا بمقولة «زامر الحي لا يطرب» فالدكتور الشامخ (كاتب الحي) يشعر بالإنكار والعقوق وعدم التقدير من المجتمع، مثله مثل زامر الحي الذي انصرف عنه أهله إلى غيره، فأصابه اليأس وتملكه الشعور بالخيبة وبالتالي الصدمة التي سببت ابتعاده. وقد حمل الكتاب نقداً حاداً لا يخلو من السخرية وجهه للمجتمع ولحالة الأدب، وبعض المذاهب الغربية، وما أسماه التقليد الشكلي للآداب الغربية. ومن يعرف الدكتور الشامخ يستطيع أن يتبين عاطفة أسى وحسرة حزينة صادقة بين سطور هذا النقد، وحتى يمكن أن يلحظ ملامح سيرة شخصية لم تكتمل... ولعل ما أفصح عنه (كاتب الحي) قد أفضى إلى رؤية واضحة وموقف نقدي مكتمل من الأدب في كتابه التالي: (البحث عن أدب حديث يصلح الأرض العربية ولا يفسد فيها...) 2000م. وهو رأي قريب من مفهوم الأدب الإسلامي، وقد أسماه: «الأدب الروحي» ويعرفه بقوله: «هو أدب كوني مؤمن بغرس العزة الإسلامية الإيمانية في قلب الأمة الإسلامية، ويهدف إلى جعل صلة الإنسان بخالق الكون صلة وثقى...» والنص الشعري الإسلامي «روحي في رؤيته، تاملي في نظرته إلى الإنسان ومصيره». أما مضمونه فهو: «بناء الإنسان وتزكيته بالفضيلة والتأمل في معجزة الخلق، وعظمة الكون، وبدء الإنسان وعلة وجوده». ويرى في تجربة الأدباء المعاصرين جرأة على القيم الدينية والخلقية وعامل هدم في كيان الأمة واستخفافاً بالدين واستهانة بقيم الفضيلة، وأتهم النقد الأدبي الحديث بأنه لم يأت بما يصلح هؤلاء الأدباء بل إن من النقاد من ارتاد لهم الطريق وناصرهم أو داهنهم، ويدعو الأدباء إلى اتباع أدب بنّاء يعمره الإيمان ويزدان بالعفة والفضيلة. لقد تكررت عبارات مثل: إيمانية الروح، التجربة الروحية الشعرية، الوجدان الروحي، الأدب الروحي في ثنايا الكتاب. ومن الواضح أن الدكتور الشامخ كان يدعو إلى أدب ملتزم دينياً وأخلاقياً لكنه في تأكيده على المضمون التأملي يبدو أنه يجعله مختلفاً عن مصطلح الأدب الإسلامي. واللافت للانتباه أن النماذج التي اختارها كتطبيق على ما ينادي به من أدب روحي، تمثل كلها قصائد من التراث الشعري القديم ومن صدر الإسلام. ويبدو أن النصوص المعاصرة لا تحقق له رؤيته للأدب الروحي فقال «وإذا بدأ أن أرض الشعر العربي عند كبار الشعراء المعاصرين قد أصبحت الآن يباباً، وأن ينبوع الخير فيهم قد صار ناضباً فإن شعر أولئك السابقين من المجاهدين الصامدين مازال غيثاً مباركاً». إن مفهوم الأدب الروحي الذي خصص له الدكتور الشامخ كتاباً كاملاً جدير بأن يحظى بدراسات موسعة تسبر أغواره وترصد أبعاده وتقف عند أسبابه ومنابعه. رحم الله أستاذنا الدكتور/ محمد عبدالرحمن الشامخ وغفر له وأسكنه فسيح الجنان. ... ... ... * ورقة ألقيت في ندوة قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود عقدت عن الدكتور الشامخ رحمه الله يوم الثلاثاء 20 محرم 1439ه، 10 أكتوبر 2017م. ** **