ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    مشيدًا بدعم القيادة لترسيخ العدالة.. د. الصمعاني: المملكة حققت نقلة تشريعية وقانونية تاريخية يقودها سمو ولي العهد    مترو الرياض    التحذير من منتحلي المؤسسات الخيرية    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    إن لم تكن معي    أداة من إنستغرام للفيديو بالذكاء الإصطناعي    ليست المرة الأولى التي يخرج الجيش السوري من الخدمة!    أوروبا تُلدغ من جحر أفاعيها !    المرجع حسين الصدر ل«عكاظ»: ندعم تنامي العلاقات السعودية العراقية    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    رينارد يُبرر مشاركة سالم الدوسري ونواف العقيدي    دراغان: مشاركة سالم الدوسري فاجأتنا وكنّا مرهقين    أوسيك يحافظ على ألقابه ويبقى بطلاً للوزن الثقيل بلا منازع حاصداً 5 أحزمة تاريخية    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    وزير العدل: نمر بنقلة تاريخية في النواحي التشريعية والقانونية يقودها ولي العهد    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    الإعلام بين الماضي والحاضر    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    منادي المعرفة والثقافة «حيّ على الكتاب»!    الطفلة اعتزاز حفظها الله    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    القصيم تحقق توطين 80% من وظائف قطاع تقنية المعلومات    رحلة تفاعلية    المنتخب العراقي يتغلّب على اليمن في كأس الخليج 26    الجوازات تنهي إجراءات مغادرة أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية "أرويا"    المدينة المنورة: وجهة استثمارية رائدة تشهد نمواً متسارعاً    مشاهدة المباريات ضمن فعاليات شتاء طنطورة    وزير الداخلية يبحث تعزيز التعاون الأمني ومكافحة تهريب المخدرات مع نظيره الكويتي    قائد القوات المشتركة يستقبل عضو مجلس القيادة الرئاسي اليمني    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف    39955 طالبًا وطالبة يؤدون اختبار مسابقة "بيبراس موهبة 2024"    المشاهير وجمع التبرعات بين استغلال الثقة وتعزيز الشفافية    الأمير فيصل بن سلمان يوجه بإطلاق اسم «عبد الله النعيم» على القاعة الثقافية بمكتبة الملك فهد    السعودية تستضيف غداً الاجتماع الأول لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    جمعية المودة تُطلق استراتيجية 2030 وخطة تنفيذية تُبرز تجربة الأسرة السعودية    نائب أمير منطقة مكة يستقبل سفير جمهورية الصين لدى المملكة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    نائب أمير الشرقية يفتتح المبنى الجديد لبلدية القطيف ويقيم مأدبة غداء لأهالي المحافظة    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    المملكة ترحب بتبني الأمم المتحدة قراراً بشأن فلسطين    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    لمحات من حروب الإسلام    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيجاد بيئة اقتصادية مستقرة ومراعاة المصلحة العامة لذوي الدخول المتوسطة والتدرج والانتقائية عناصر أساسية لتحقيق أهداف الخصخصة
نشر في الجزيرة يوم 17 - 10 - 2017

في خضم الأحداث الجلل المتتالية والمتسارعة التي يشهدها العالم بأسره وبالتحديد منطقتنا العربية ونواة العروبة والإسلام، أي الجزيرة العربية، كان ولابد ألا تقف المملكة العربية السعودية،- كونها محط أنظار العالم كزعيمة منتجي النفط العالمي وهي المناط بها صهوة العروبة والإسلام،- وتكتفي بموقف المتفرج من تلك الأحداث وبالأمل والدعوات والرجاء فقط بألا يصل إلينا ما وصل إليه أحوال جيراننا من تدهور أمني واجتماعي واقتصادي، وبتفكير نهضوي قل مثيله في العالم المعاصر، وفي تحول وطني كبير بدأت المملكة في العهد الجديد، عهد النهضة الكبرى، بشق مسارات اقتصادية واجتماعية وثقافية تهدف من بين أهدافها إلى بناء مواطن يفتخر بوطنه وبمواطنيته ومتفادياً رياح ما كانت ستؤول إليه تلك الأحوال التي يعاني من آثارها المميتة مواطنو معظم البلدان المجاورة فيما لو استمرت الأوضاع على حالها. وبدأت في الأفق القريب، بأن هذا التحول النهضوي الوطني لمملكتنا الحبيبة سيكون قادراً بإذن الله وبتوفيقه للقيادة الرشيدة باسترداد دورها القيادي للعالم الإسلامي والعربي على حد سواء ونشر الخير والمعرفة والأمن والاستقرار. فالعالم العربي والإسلامي يستلهم أمنه واستقراره من أمن واستقرار المملكة كونها مصدر إلهام وثقة واستقرار للأمن العربي.
ومن موقع المملكة وأهميتها عالمياً وإقليمياً، فلا عجب والحال كذلك أن أنظار العالم مسلطة دائما على السعودية ومعنية باستقرارها الأمني الداخلي والإقليمي، خصوصا ما تعيشه بعض بلدان منطقة الشرق الأوسط، التي تمر بظروف أمنية صعبة، وما أفرزته تلك الأحداث الجسام في التطرف وتبلور الإرهاب الذي زلزل العالم بأجمعه، وما تسبب في إحداث شروخ في النسق الاجتماعي لبعض الدول وزعزعة في الأنظمة القائمة وسقوط بعضها، إلا أنه وعلى الرغم من كل هذه النزاعات والقلاقل التي تدور من حولنا بقيت المملكة جزيرة يعمها الأمن والأمان وسط هذا البحر الهائج المتصارع من حولنا، وبفضل من الله ثم بفضل المبادرات الحاسمة لقيادة المملكة الحكيمة والحازمة، التي عودتنا على ذلك منذ تأسيسها إلى يومنا هذا بالاستجابة السريعة والحاسمة للظروف المتغيرة، التي حققت الأمن والرخاء داخليا، وجعلت النفط وإمداداته في منأى عما يحيطنا من الأزمات والقلاقل وتأثيراتها، ولا سيما أن التدقيق في خلفيات كثير مما يشهده عديد من دول المنطقة من اختلالات أمنية يعود في الأصل إلى صراع القوى الكبرى على مصادر الطاقة. ولقد تجسدت عظمة المملكة بين دول الإقليم بقياس مدى ما حققته من إنجازات ملموسة على أرض الواقع وليس بالشعارات وأدبيات التنظير المختلفة التي لم تحقق لشعوب المنطقة إلا الويلات والقلاقل والحروب.
المملكة محط أنظار دول العالم قاطبة
كما يشكل ذلك النهج النهضوي ارتياح العالم الخارجي، كون المملكة محط أنظار دول العالم قاطبة والمعنية باستقرار المملكة الأمني الداخلي والإقليمي والذي يعتبر عامل استقرار لتأمين إمدادات البترول وبالتالي من أولويات الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية التي يهتم بها العالم، خصوصا القوى الكبرى، نظرا لأن النفط يعتبر سلعة إستراتيجية تتحكم وتؤثر فيها الأحداث الأمنية بشكل كبير، ولا سيما إذا كانت هذه الأحداث قريبة جدا من منابع النفط. فالأمن الداخلي واستقرار الدول النفطية ينعكس إيجابا على أمن إمدادات الطاقة واستقرار أسعارها، فأمن الطاقة الذي يعرف بأنه توافر الطاقة المستمر بأشكال مختلفة وبكميات كافية وأسعار معقولة للسوق العالمية يتأثر إيجابا أو سلبا بالأوضاع الأمنية الداخلية للبلدان النفطية، خصوصا ذات الإنتاج الضخم كحال المملكة التي تمتلك أكبر الاحتياطيات البترولية والأكثر وفرة في العالم، حيث تقدر بنحو 20 في المائة من احتياطي العالم، وهي أكبر مصدر له حاليا بإنتاج يتجاوز التسعة ملايين برميل يوميا أو نحو 10 في المائة من الطلب العالمي، ولديها أكبر فائض احتياطي يتجاوز الثلاثة ملايين برميل يوميا.
فالتحول النهضوي الوطني الكبير التي تقوم به المملكة في وقتنا الحاضر لاشك بأنه يشكل صمام أمان للأمن الداخلي وتقوية اللحمة الوطنية وحفظ الجبهة الداخلية من جهة ومن جهة أخرى يعتبر تطميناً للعالم الخارجي الذي يرى أنه سينعكس إيجابيا على الاستقرار للإمدادات النفطية وعنصر فعال لطمأنينة السوق النفطية العالمية، وجعل من السعودية واحة من الأمن والاستقرار، وفي منأى عن هذه الأزمات التي تحيط بالمنطقة العربية ويشهده عديد من دول المنطقة من اختلالات أمنية يعود جلها في الأصل إلى صراع على مصادر الطاقة وتأثيراتها، وكما تقول الحكمة: نعمتان لا تعرفان إلا إذا فقدتا، نعمة الصحة في الأبدان ونعمة الأمن في الأوطان.
لقد تجلت تلك التحولات النهضوية مع بداية العهد الجديد وبالتحديد مع بداية العام 2016م، وكانت الظروف مهيأة جدا لتلك التحولات الوطنية، وأذكر أنه وفي الأشهر الأولى من عام 2015، طرحت في الصحافة المحلية سلسلة من المقالات، تطرقت فيها عن الحاجة أو حتمية مراجعة الإستراتيجية الاقتصادية ووجوب تنويع مصادر الدخل، وذلك بالتركيز على المميزات النسبية التي حبانا الله بها بتأسيس الاقتصاد الوطني على الركيزة الإسلامية بوجود الحرمين الشريفين، وقوتنا الاستثمارية المتشكلة في احتياطياتنا النقدية التي تبلغ ما يقارب الثمانمائة مليار دولار (780 مليار دولار)، ووجود البترول بكميات كبيرة لخلق صناعات محلية وموقع المملكة الجغرافي المميز. (انظر سلسلة مقالات في الصحافة المحلية عن انخفاض أسعار النفط والحاجة إلى تنويع مصادر الدخل، (فبراير 2015 ومارس وابريل ومايو من عام 2015م). ولدهشتنا وابتهاجنا، وربما معظم القراء المتابعين للصحافة المحلية، جاءت تفاؤلاتنا في تلك المقالات ليس فقط مطابقة للواقع، بل إن تلك المقترحات وأجزاء منها لم يتسن لنا بتحقيق أي منها على مستوى الوطن منذ أن وضعنا أول خطة خمسية عام 1970 إلى الآن وها هي الآن من ضمن الآمال الكبيرة في عربة قطار النهضة لتحقيقها. ولقد جاءت رؤية الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والأمنية والتنمية، بعد إقرارها كرؤية المملكة العربية السعودية 2030 خلال جلسة مجلس الوزراء، كمن وضع تلك الأهداف الطموحة على نار حامية لتحقيقها بسرعة فائقة، محددا بذلك مسيرة للمستقبل وإنجازها وتحقيقها بتواريخ محددة، وفي دفعات قوية لمنهج التحول الوطني، بدأت من مطلع عام 2016م، متضمناً إصلاحات شاملة وآليات محددة بما في ذلك تحرير للأسواق من خلال خصخصة القطاعات المختلفة من نشاطات المملكة الاقتصادية، هادفا في ذلك إلى رفع مستوى الشفافية والمراقبة والإدارة الفعالة بعيدا عن البيروقراطية وترهلاتها غير المحمودة، وفي حقيقة الأمر أن تلك الرؤية تخطت جميع توقعات المراقبين والمحللين، حينما أعلن عن أن حكومة المملكة تدرس طرح ما يقارب 5 في المائة من أسهم عملاق النفط العالمي شركة أرامكو الأم في اكتتاب أولي، وذلك لتعزز خدمة أهداف شركة أرامكو نفسها.. «بإيجاد قدر أكبر من الشفافية والمكافحة لأي نوع من أنواع الفساد الذي قد يكون موجودا في محيط أرامك». وبيّن ولي العهد أنه وضع نصب عينيه مقدرات المملكة العظيمة، وبرؤية طموحة عملية ستبتلع معظم الأزمات والإخفاقات الملحة في وقتنا الحاضر، مثل الفساد الإداري والبطالة وأزمة الإسكان، من خلال طرح حزمة كبيرة من مشاريعها للاكتتاب في عدة قطاعات، وتحويلها إلى عملاق صناعي على مستوى العالم، وإنشاء أكبر صندوق سيادي يدار من قبل الاستثمارات العامة، وتشجيع كبريات الشركات السعودية كلاعب أساسي في أسواق العالم، ومساعدة الشركات الواعدة لتتبوأ مكانها بين الشركات الكبرى، واستثمار الثروات في الداخل، بإيجاد مزيد من الفرص الوظيفية والاقتصادية، مجسدا ذلك في أعداد كبيرة من الأهداف تندرج تحت ثلاثة مواضيع: وطن طموح، ومجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، برفع نسبة الصادرات غير النفطية إلى 50 في المائة وبتنافسية جاذبة ورفع نسبة الاستثمارات الأجنبية إلى المعدل العالمي، ورفع قيمة أصول صندوق الاستثمارات إلى سبعة تريليونات ريال، وتخفيض مستوى البطالة من 11 إلى 7 في المائة، ومجتمع حيوي ببنيان متين وبزيادة متوسط العمر المتوقع من 74 إلى 80 عاما ورفع مؤشر رأس المال الاجتماعي إلى المرتبة العاشرة، ورفع عدد المواقع الأثرية المسجلة لدى «يونيسكو» إلى الضعف، وزيادة الطاقة الاستيعابية لاستقبال ضيوف الرحمن المعتمرين إلى 30 مليون معتمر سنويا، ووطن طموح بمواطنة مسؤولة، ورفع مساهمة القطاع غير الربحي إلى 5 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، ورفع نسبة مدخرات الأسر من إجمالي دخلها من 6 في المائة إلى 10 في المائة. وثالثا حكومة فاعلة، وذلك لتحقيق وصولها من المركز ال 36 إلى المراكز الخامس في الحكومة الإلكترونية، وتوصيلها إلى الدرجة 20 في مؤشر فاعلية الحكومة، وزيادة الإيرادات الحكومية غير النفطية من 163 مليار ريال إلى تريليون ريال. ولا تثريب بأن هذه التغييرات الجذرية الطموحة أنها في بعض الأوقات وخصوصاً في بدايتها ولكي تحقق الإنجازات المأمولة بشكل مرضي بأن يكون هنالك إعادة لقراءة بعضها وذلك لالتقاط الأنفاس ولغربلتها واستبعاد الطالح وإبقاء الصالح منها أي بتقليم بعض أغصان هذه «الشجرة النهضوية» وما نشأ حولها ومن خلالها من نباتات وزوائد وطفيليات وهو أمر طبيعي لغرض تقويتها وليس اقتلاعها كما يبدوا لعديمي الخبرة أو الضمير المغرض الذي يحاول بإثارة الشكوك حولها عندما تم إعلان مراجعتها.
التحول الوطني وموضوع الخصخصة
وكما أشرنا في البداية بأن هذا التحول الوطني هو تحول اقتصادي في الدرجة الأولى وبمنطلقات ومسارات اجتماعية ثقافية ومالية وأمنية وخارجية وعسكرية وسياسية ... إلخ، وحيث إن نقطة البدء للانطلاق في هذا التحول العظيم هو التحول الاقتصادي في الدرجة الأولى فمن المهم تسليط الضوء هنا على هذا الموضوع الأساسي، أي التحول الاقتصادي وركيزته الأساسية أي الخصخصة في الدرجة الأولى. وهو الآخر أي موضوع الخصخصة متشعب ولكن مفهومه العام هو تحريره للأسواق، الذي يأتي في سياق برنامج التحول الوطني الطموح الذي تنتهجه المملكة للتخلص من الحجم الزائد للقطاع العام، وتحقيق الكفاءة الاقتصادية بصفة عامة والكفاءة الإنتاجية، والقضاء على المظاهر السلبية لانخفاض الكفاءة الإنتاجية في وحدات القطاع العام بصفة خاصة والخيارات المتاحة للخصخصة. وبالتالي فإن الخصخصة هو لب برنامج التحول الوطني، الذي يهدف إلى الإصلاح الاقتصادي وحيويته. وللإصلاح الاقتصادي مدارس ومسارات واتجاهات عديدة بعض منها تم تطبيقه على أرض الواقع والبعض لم يعمل به وبقي نظريات في طيات الكتب. وما يهمنا هنا هو ما تم تطبيقه والعمل به على أرض الواقع ونتائجه الإيجابية والسلبية نظراً لأهمية ذلك ولاستبعاد السلبيات والزلات التي مرت بها تلك التجارب العملية.
ففي خلال الثمانينيات ووصول المحافظين لسدة الحكم في بريطانيا وأمريكا، تبوأ منها ما عرف في الأدب الاقتصادي بالخصخصة أو التخصيص privatization مع ما يعرف بالثورة التاتشرية نسبة إلى ماجريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا التي تبنت الخصخصة وجعلتها منهجا وأسلوبا اعتمد عليه عديد من الدول بما فيها الولايات المتحدة خلال إدارة رونالد ريجين فيما يعرف بالتحرر Deregulation أو التحرر من القيود القانونية، وفي الاتحاد السوفياتي تحت جورباتشوف آنذاك بالجلاسنوست glasnost أي التحرر بشقيه السياسي والاقتصادي، أي أن الخصخصة برزت مع التغييرات الجذرية لمفهوم أو فلسفة مسؤولية الدولة من إدارة الاقتصاد ودورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي وتحريره، ومشاركة القطاع الخاص في إدارته، وبشكل بسيط فإنها عكس التأميم الذي كان متبعا في الستينيات من القرن المنصرم، أي أنها نقل ملكية أو إدارة نشاط اقتصادي ما، إما جزئيا وإما كليا إلى القطاع الخاص، وذلك بتحرير السوق وعدم تدخل الدولة إلا في حالات الضرورة القصوى عبر أدوات محددة، لضمان استقرار السوق والحد من تقلباتها، أي أنه بمثابة نقلة اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة وفلسفة جديدة لدور الدولة للتخلص من الحجم الزائد للقطاع العام، وتحقيق الكفاءة الاقتصادية بصفة عامة، والكفاءة الإنتاجية في وحدات القطاع العام بصفة خاصة. ولقد استحوذت ظاهرة أو فلسفة الثمانينيات الاقتصادية موضوعا رئيسا يتم استخدامه في معظم الدول والسياسات الاقتصادية وبتسمياتها المختلفة، على اهتمام معظم دول العالم سواء كانت متقدمة أو نامية، وجميع تلك التسميات تعبر عن مصطلح اقتصادي مفاده التخصيص أو باللغة الإنكليزية أو الفرنسية privatization، أي بتحويل القطاعات الاقتصادية والخدمات الاجتماعية من القطاع العام إلى القطاع الخاص، وتركيز اهتمام الدولة وقطاعها العام وفقا لتلك الفلسفة الاقتصادية الحديثة على الأمور التي ترتبط بسياستها العليا كالأمور السياسية والإدارية والأمنية والاجتماعية، وتحرير سائر الأمور الأخرى للقطاع الخاص في إطار القوانين المنظمة لعمل هذا القطاع. وعليه فالخصخصة استراتيجيات وأساليب تنفيذ، منها ما هو بسيط، وهو ما حققته المملكة بشكل تدريجي خلال التسعينيات من القرن المنصرم حينما خصخصت جزئياً شركة سابك تلتها شركة معادن، ومنها ما هو شامل بمحاور متعددة يهدف إلى إصلاح جزئي للأوضاع الاقتصادية في الدولة،وذلك بإعادة هيكلة الاقتصاد الوطني برمته وتحرير كل الأنشطة الاقتصادية المملوكة للدولة، وهذا الذي ستتبعه حكومة المملكة وفقا لما صرح به رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، بنية حكومة خادم الحرمين خصخصة قطاعات الدولة مثل الرعاية الصحية والقطاع التعليمي وبعض القطاعات العسكرية مثل المصانع العسكرية والشركات المملوكة من قبل الدولة، بما فيها شركة أرامكو. وذكر رئيس مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية أن الهدف من خصخصة «أرامكو» هو لخدمة ثلاثة محاور: دعم السوق، الشفافية، ومكافحة الفساد.
أهمية التدرج والانتقائية
في الخصخصة وإيجاد البيئة الاقتصادية
لا شك في أهمية التدرج والانتقائية في الخصخصة وإيجاد البيئة الاقتصادية والاجتماعية المناسبة، حيث إنه خلال ال 30 عاما الماضية تمخضت تجارب عديدة للخصخصة بنتائج مختلفة، وأدى التسرع في نهج الخصخصة إلى عدم الوصول إلى تحقيق الهدف المنشود منها، وعليه فإن إيجاد بيئة اقتصادية مستقرة، وتحديد مبادئ توجيهية واضحة، وإيجاد ثقافة للخصخصة بقناعات عامة وبمراعاة المصلحة العامة لذوي الدخول المتوسطة والدنيا، والتدرج والانتقائية، كانت من عناصر النجاح وتحقيق الأهداف المرجوة من الخصخصة، لذلك نجد أن بريطانيا خلال حكومة المحافظين التي تبنّت تجربة الخصخصة في عهد رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر كانت انتقائية وقليلة ومتدرجة، وبالرغم من ذلك لم تسلم من إضرابات عمالية وخصوصا عمال مناجم الفحم، التي كادت تودي بحكومة تاتشر المحافظة لولا مساعدة إدارة ريجن وتدخلها لمساندة حكومة تاتشر، ثم انخراطها في حرب الفوكلاند، التي أدى انتصارها على الأرجنتين في ازدياد شعبيتها وتخطيها أزمات الخصخصة داخليا. ومن بين التحارب أيضا عمليات الخصخصة في دول الاتحاد السوفياتي السابق، التي كانت متسارعة وبلا حدود وبيعت فيها كل المؤسسات العامة في زمن قصير جدا، وبالطبع لم يحالفها النجاح المنشود، لأنها أوجدت فجوة كبيرة بين جيل مشبع بثقافة الملكية العامة الموروثة إلى الخصخصة والرأسمالية، وما نتج عنه من استغلال القلة بالاستحواذ على الممتلكات العامة واحتكارها، ولولا أن الدول الأوروبية الغربية هبت لإنقاذها لتداعت وانهارت ولجأت إلى نوع من أنواع الاقتصاد الشمولي مرة أخرى. كما أن من أنجح التجارب في الخصخصة، ذلك النهج الذي تبنته الصين وكذلك ماليزيا في إنجاز الخصخصة، فالتجربة الصينية في الخصخصة كانت متدرجة وانتقائية في آن واحد، بدأت منذ زيارة نيكسون عام 1976 والاعتراف بالصين الشعبية كدولة تمثل الصين بدلا من تايوان، ومنها بدأ الانفتاح الحذر على العالم الرأسمالي وأخذت في التدرج البطيء والمحسوب بعناية فائقة، حيث قامت باختيار أسلوبها بعناية فائقة وفقا لكل حالة بعينها وخصوصيتها، فاستخدمت ثلاثة أساليب وفقا للهدف المراد تحقيقه من برنامج الخصخصة، والوضع المالي للمؤسسة العامة، وإمكانية حشد وتعبئة موارد القطاع الخاص، والظروف السياسية المواتية والعناصر المؤثرة في اختيار الوسيلة، وذلك باتباعها ما هو شمولي كتصفية بعض من المؤسسات العامة، أما الأسلوب الآخرهو أوسطها لبعض المؤسسات الأخرى، ووفقا للحالة التي هي عليها تلك المؤسسات كبيع أسهم المؤسسة المعنية للعاملين وصغار المستثمرين، فيما كان الأسلوب أو النهج الثالث هو الأقل صرامة كإعادة تنظيم المؤسسة العامة إلى فروع صغيرة أو دمجها في مؤسسة كبيرة، وبعد نجاح تلك التجربة في الخصخصة أطلقت إصلاحات مساندة في 2010 هدفت لتنويع اقتصادها بعيدا عن تصدير السلع، ولجذب مزيد من المستثمرين الأجانب، وبالفعل تمكنت ماليزيا من زيادة نصيب القطاع الخاص من الاستثمارات بصورة كبيرة ليصل إلى 64 في المائة في 2014 من 55 في المائة في 2010، لكن لم تنجح في التعامل مع عملتها التي هبطت تزامنا مع هبوط أسعار السلع الأولية.
ولاشك أن المملكة ستمر بمراحل نوعية من الخصخصة وستتخذ من تجارب السابقين منارا تهتدي به لتحقيق هذا التحول النهضوي الوطني لمملكتنا الحبيبة والذي سيؤهل المملكة وبالقيادة السلمانية الرشيدة باسترداد دورها القيادي للعالم الإسلامي والعربي على حد سواء ونشر الخير والمعرفة والأمن والاستقرار في ربوع المعمورة.
** **
- د. راشد بن محمد أبانمي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.