يتجدد في كل حين النقاش القديم عن الغاية من الدراسة، وخاصة الدراسة الجامعية، وهل هي الحصول على وظيفة مناسِبة بعد التخرج أم الاستمتاع بتلقي العلم من أجل العلم بصرف النظر عن المستقبل الوظيفي في سوق العمل للتخصص الذي يدرسه الطالب. لكل وجهة نظر مبرراتها، والطالب المحظوظ هو بالتأكيد من يميل إلى تخصص ذي مستقبل واعد في سوق العمل، فهو يجمع بين إشباع الرغبة في التعلم وبين الحصول على وظيفة بعد التخرج. أما مَنْ يضطر إلى دراسة تخصص لا يعجبه ولا يميل إليه فهو قد يشقى وهو على مقاعد الدراسة ثم يعمل في مهنة قد لا يحبها بعد تخرجه. ومع ذلك، فهذا الأخير قد يكون أسعد حظاً من الطالب الذي درس علماً يحبه ولكن لا طلب عليه في سوق العمل، فيدخل المتخرج في صفوف العاطلين عن العمل ويواجه صعوبات معيشية وحياتية فيَشقى ويُشقي من يعيش تحت كنفه من الأولاد والأسرة. لن ينتهي هذا النقاش، وقد تداخل معي بعض القراء بعد مقال كتبته عن التخصصات في الجامعات السعودية ومدى وجاهة الإبقاء على التخصصات التي لا يجد خريجوها وظائف في سوق العمل، فقد كنت وما أزال أرى أن مثل هذا التخصص الذي لا يجد دارسوه وظائف في سوق العمل هو عبء على ميزانيات الجامعات وعلى المجتمع وقبل ذلك على الفرد نفسه الذي قد لا يكتشف إلا متأخراً الورطة التي وقع فيها. ولو أن الطالب الذي يميل إلى دراسة تخصص غير مطلوب في سوق العمل لكنه لن يطالب المجتمع بوظيفة بسبب اكتفائه المادي، أو كان يدرس ذلك التخصص على حسابه الخاص فلا يُحَمِّل الجامعة والمجتمع تكاليف دراسة تخصصٍ لا مستقبل وظيفي له ويقبل بمثل هذا المستقبل الغامض ولا يلوم المجتمع الذي لم «يُدَبِّر» له وظيفة حتى لو كان تخصصه عن العادات البدائية في أدغال أفريقيا، لو أن الأمر كان على هذا النحو فلن يقترح أحدٌ التركيز على التخصصات المطلوبة في سوق العمل قبل غيرها من التخصصات. إنني أعتقد أن مقولة «العلم للعلم» أصبحت في زمننا الحاضر ترفاً يصعب تحمله من قبل المجتمع، ولكن إذا كان خيار الفرد هو التخصص في علم لا مستقبل وظيفي له فإن على الفرد أن يتحمل تبعات خياره بما في ذلك احتمال انضمامه إلى طوابير العاطلين أو إعادة تدريب نفسه في مجال جديد أو الدراسة من جديد ومن الصفر في حين كان بإمكانه أن يوفر على نفسه وعلى المجتمع هذه المتاعب. سيختلف كثيرون مع هذا الرأي، وهذا طبيعي ومحل التفهم والتقدير.