كان الشعر العربي أحد الفنون الراقية التي عبرّت عن حاجة من حاجات الذات البشرية التي تتعشق الجمال وتتطلع إلى العالم الأنقى مثله مثل الرسم والموسيقا والنحت وغيرها مما يندرج تحت مسمّى الفنون الجميلة. وليس بخاف بأن الشعر العربي شعر غنائي وقد قيل الشعر ليغنى, فعماده الموسيقا والوزن والنغم, وهو ينتج عن مشاعر وأحاسيس المبدع, فيضف انفعالاته أو يصور معاناته الشخصية وما مر فيه من تجارب ومعيشه, فالمبدع قبل أي شيء هو شخص يعيش ويرى ويحس ويحلم, وهو في إدراكه الواقع إنما يحاول أن يقدم لوحة بالكلمات تعكس ذلك الواقع من خلال مرآة ذاته التي لا تنفصل بحالٍ من الأحوال عن البيئة الاجتماعية التي يلتزم بمشكلاتها الأساسية التي تصبح جزءاً من هواجسه والتي يعيشها. فيصبح الشاعر لسان حال الجماعة مثلما تكون الجماعة امتداداً له. ومن هنا فإن القضايا التي يعالجها الشعر الغنائي قد تكون ذاتية تتجه إلى العالم الداخلي للشاعر فتعبر عما يختلج في نفسه من انفعالات وما يعتمل في ذاته من مشاعر وأحاسيس تعبّر عن تأملات وتجارب مرّ فيها مثلما تتأرجح في تصوير نجاح أو تعبّر عن فشل يبقى الشاعر بين جناحي تحليق وانكسار هو الحامل لذلك الألم أو الفرح. ولأن الشاعر ابن المحيط الاجتماعي ولا يعيش بمعزل عن الواقع فقد يكون الموضوع تعبيراً عن هم خارجي يجسّد الوعي الجمعي الذي يكون للمحيط الاجتماعي دوره الأساس فيه فيكون الشاعر مصوراً لذلك الخارج من خلال تناوله ذلك الموضوع الخارجي الذي يتماهى في تقاطعه مع الذات الشاعرة فيعبر عن المشكلات الاجتماعية من خلال بوحه الذي يصور فيه العالم حسب ما يعيشه واقعاً اجتماعياً مفروضاً عليه وحلماً مُتمنَّى يتوق إليه, ويسعى لتحقيقه لتصبح القصيدة السُّلّم الذي يصعد من خلاله. وأغلب الشعر العربي هو الشعر الغنائي وقد تفرد بخصوصيّةٍ الغناء من دون بقية الأنواع الأخرى من الشعر وقد تشعبت لأغراض فيه من مثل الفخر والهجاء والغزل والرثاء والزهد وما إليها وقد فرضت الحياة الاجتماعية تلك الموضوعات وفق ما اقتضته الظروف التاريخية حسب مراحل التطور التي مرّ بها الشعر العربي، وكان للشعراء دورهم الطليعي في تطوير الشعر والوصول به إلى مراتب الجمال الأسمى فبلغوا فيه درجات الفنية القصوى بما أبدعوه سواء من حيث الكم أم من حيث الكيف. خاصة في العصور الحديثة التي شهدت معالم الانفجار المعرفي الهائل فكان الشعر مواكباً حركة التطور وموازياً لصعود المد العالمي, فأخذ الشعراء على عاتقهم استشراف آفاق الجمال وهم يرسمون بإبداعهم معالم الدرب الجديدة بما أحدثته الحياة المعاصرة ليكونوا مصورين للحاضر لا مقتفين خطى الأسلاف. والشعر الغنائي شعر ضارب الجذور في موروثنا الأدبي, فالشعر الجاهلي شعر غنائي بالفطرة استطاع الشاعر في ذلك العصر أن يُعبّر من خلاله عما يجول في نفسه وأن يصور واقعه, لينقل إلينا صورة المجتمع في ذلك الوقت لكل تفاصيله, فكان الشعر الغنائي بصورته المكتملة التي وصلت إلينا نتيجة طبيعة لتجارب طويلة مرت بها إبداعات الشعراء في تلك المرحلة ولا شك أنها قد انتقلت من مرحلة إلى مرحلة حتى بلغت مستوى النضج الذي قدمت لنا فيه بعد إلى جانب توأمه النثر الذي كان أسبق من الشعر لما يتسم به النثر من العفوية التي لا يعوزها إعمال ذهن في البحث عن الزخارف اللفظية والإيغال في البحث عن الصورة المجنحة والخيال المتوثّب. فكان الشعر في العصر الجاهلي مصاغاً بما يتناسب واللحن فكان الشعر مناسباً للغناء فاختاروا القافية الموائمة واللفظ المناسب للوزن واستطاعوا توظيف مقومات الغناء كلها لتكوّن لموسيقا الخارجية التي لم تقصر الشعر الغنائي عليها لتكون إطاراً تزييناً تمثلت بالوزن والقوافي, بل تجاوزها إلى الموسيقا الداخلية فأولع الشاعر الجاهلي باختيار التآلف بين الكلمات والانسجام بين الحروف من قرب المآخذ وسهولة النطق لتكون الموسيقا الداخلية محققة شرط الغنائية التي تتكامل مع الموسيقا بمظهرها الخارجي فأصبح الشعر الغنائي بذلك التوافق بين الموسيقا الداخلية والخارجية مسرحاً تتراقص فيه الكلمات وهي تتوشّح بزركشات كثيرة من الحروف المتباينة من انفجارية وهامسة لتشكّل بتعاقب إيقاعاتها جرساً نغمياً تحلق فيه الكلمات فراشات تتباهى بإيقاعات ألوانٍ في واحة القصيدة الغنائية التي تتمثل في الشعر العربي الواحة الأكثر امتداداً على مساحة الشعر العربي على اتساع آفاقه وتاريخه العريق.