لوشهد بوريس باسترناك سقوط الشيوعية ممثلة في الاتحاد السوفيتي السابق في التسعينات لكان له رأي آخر ولأصبح أشد الناس سعادة واعتقد أن المديح سيكون من نصيب غورباتشوف والبيروستوريكا ولكن سيظل في حيرة مرة أخرى فيما يؤيد ويعارض فالخوف من العودة إلى نقطة البدء مازالت عالقة في الذهن ! فقد سبق ذلك سقوط الملكية الروسية واستيلاء البلاشفة على الحكم فكان أول المهلّلين بهذا النصر الذي اعتقدَ أن الحرية أصبحت عند باب منزله بل عند باب كل الطبقة الكادحة ( البروليتاريا ) ولكن ! كحال كثير من الأدباء والفلاسفة الذين لم يبق لهم مكان آمن في كل أنحاء روسيا سوى خلف القضبان الحديدية أو متغرب قد شد الرحال هرباً من مقصلة تنتظره هذا إن لم يقدم على الانتحار فاستحالت الفرحة ندماً وبكاءً على أحلام تبخرت في الهواء الطلق ! على أن باسترناك لم ينله ما نال بيلنياك واسحاق بابل اللذان أعدما بقرار من الدكتاتور ! ولكن يكفي حرمانه من جائزة نوبل للآداب سنة 1958م بقرار خروتشوف ! لأن رواية دكتور جيفاكو إنما هي سهم في قلب الشيوعية كما يعتقد النظام وعار عليه أن يسمح لمواطن يفوز بها - لذلك كانت إيطاليا هي محطة الناشر وليس بلده روسيا - بينما هي في الواقع تبكي حال طبقة الفلاحين والعمال والمجتمع المدني الذي من أجله قامت الثورة وكيف وصل بهم الحال من البؤس والشقاء مرة أخرى بل أسوء من ذي قبل ! والحقيقة الأخرى أنها تحتوي على مسحة دينية فهو لا ينفك بطول الرواية وعرضها يذكر المسيح والقساوسة والكهّان والكنيسة والقدّاس والإله وهذا بعيد عما تؤمن به الشيوعية الملحدة ومبادئ الاشتراكية كثيراً وعما جاء به ماركس ولينين ! ومع ذلك ففيها نوعاً من استلطاف وعطف على الطبقة العمالية الكادحة التي يريدها البلاشفة والتي من أجلهم قامت الثورة ولو صوريّاً ! دكتور جيفاكو رواية تختلف عن معظم الروايات لتعدد أطياف الدراما فيها فالرومانسية والتراجيديا والسياسة اشتركوا جميعاً في هذا العمل الاستثنائي ولا شك أن الثورة هي العمود الفقري الذي سارت عليه منذ البداية - فأمواج الثورة اجتاحت روسيا من أقصاها إلى أقصاها كما يقول - وحيث كان حلم الفتى سنة 1911م وهو يستعد للتخرج من كلية الطب في الربيع بعد أن رأى آثار الثورة الفاشلة التي اجتاحت البلاد سنة 1905م حين جعلتها لقمة سائغة للصوص وقطّاع الطرق والفوضى التي أدّت إلى تحول الحكم الملكي إلى دستوري دون تغير شامل نحو الديمقراطية أثناء ذلك تكوّنت في نفس الفتى الذي كان يُنادى بيورا موجة من التساؤلات والأفكار الخارجة عن نطاق الطب والدراسة حتى إذا استوى عوده وأصبح طبيباً وتفرق جمع فندق مونتنيغرو راح يخدم وطنه في ثوراتها وحروبها وتختلط الحكاية برومانسية مفعمة بالزواج الحقيقي وحب من نوع آخر في الظل للارا الشخصية الثانية في الرواية التي تكون السبب في وفاته حين يلهث وراءها ثم يسقط دون حراك ! فخيبات الأمل لا حقت يوري جيفاكو منذ البداية في كل ذلك من وفاة والدته ثم والده الذي لم يشاهده وحلمه أثناء الثورات بعيش هانئ للفقراء الكادحين وترحيبة بالبلاشفة المخلّصين وإذا به يصاب بخيبة لسياستهم القمعية التي لا ترحم وقيودهم المفروضة الصارمة على حرية الناس وفي آخر رمق عندما رأى لارا وبصُرها عن جنب ثم تبعها فإذا الموت بانتظاره ، حتى المارّة كانوا يسيرون جانبه دون أن يعبأوا بهذا المُلقى ! وكأنه إعلان من باسترناك على الشعب البائس الذي ما فتئ يبحث عن لقمة عيش كريمة فيصطدم بجدار الجشع والكراهية الفردية والجماعية فذهبت كل التضحيات أدراج الرياح وأصبح مآلها الفشل ولكن مازال حتى الخاتمة فيه رمق من الأمل يرى من بعيد في آخر النفق ضوءاً لعلّ فيه الحرية مرة أخرى .